بعيداً عن الخلافات التي احتدمت فور إعلان نتيجة مسابقة الأفلام الروائية القصيرة والتسجيلية، ضمن الدورة التاسعة والعشرين لـ «مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط»، عندما أكدت النشرة الرسمية للمهرجان فوز «كيف تراني» للمخرجة سعاد شوقي بجائزة أفضل فيلم روائي قصير مناصفة مع «ستة» للمخرج بهاء الجمل، في حين حصد الأول الجائزة منفرداً عند إعلان النتائج على منصة التتويج، يمكن القول إن النتيجة التي جاءت في النشرة الرسمية هي أكثر موضوعية، وإنصافاً للفيلمين، كونهما اتسما بالثراء، على صعيدي اللغة والرؤية، فضلاً عن جرأة مخرجيهما وطموحهما.

Ad

في «كيف تراني» (27 دقيقة /2013) الذي كتبت فكرته وشاركت في صياغة السيناريو والحوار مع أحمد أبو الفضل، تثمن المخرجة سعاد شوقي أهمية «لغة الحوار»، وتندد بخطورة ظاهرة غياب «ثقافة الاختلاف»، عبر الشاب ياسين (رامز أمير) صاحب لحية مهندمة ومسبحة لا تفارق يديه، الذي يرد بشق الأنفس على تحية جارته ليلى (أمينة خليل)  كونه ينظر إليها بتوجّس، لأنها تعيش بمفردها في إحدى شقق العمارة التي تملكها عائلته، وتبدو مغرمة بالفن. لكن انطباعه يختلف عندما يقترب من عالمها؛ فهي تعيش على سجيتها لكنها تُدرك معنى الحرية، وتهوى السفر والتنقل، فيما يبدو هو سجين أفكاره المتزمتة، وعاجزاً عن اتخاذ قراره، فيُحرره الحوار معها من تزمته، ويُخلصه من تردده.

 غير أن الفتاة التي لا تعرف الاستقرار في مكان واحد، تُغادر الشقة إلى أخرى، تاركة اللوحة التي اشتركا في رسمها، بكل ما في المشهد من دلالة على نجاح التقارب والحوار، وتعكس فرحة الفتى باللوحة حجم التغيير الذي أصاب شخصيته؛ فالمخرجة الشابة توظف عناصرها الفنية كلها لتوصيل رسالتها الفكرية، ومع امتلاكها الواضح لأدواتها، تبدو قادرة على التكثيف والإيجاز في إيصال المعنى، عبر اللغة البصرية، وبأقل جرعة من الحوار، فضلاً عن قدرتها الواضحة على استخراج أفضل ما في جعبة ممثليها.

على الجانب الآخر، يُظهر المخرج الشاب بهاء الجمل في فيلمه «ستة» (18 دقيقة /2013) تأليف عاطف ناشد وتصويره، موهبة وحساسية في توظيف شريط الصوت والمؤثرات والتصوير، من ثم الإضاءة؛ فمع اللحظة الأولى لنزول العناوين، على خلفية سوداء تُنذر بأن ثمة خطراً في الأفق، وخواء يشي به صوت «غرامافون» عتيق يعمل في الفراغ، نستمع إلى حوار بين رجل (عاطف يوسف) وامرأة (شيماء عبيد) يؤكد أنهما زوجان في انتظار ضيوف، مثلما يُشير الحوار إلى أهمية «سلسلة الفراشة» بالنسبة إلى الزوجة سارة، بينما تتراجع هذه الأهمية بالنسبة إلى الزوج خالد، وهو الاختلاف الذي يعمقه المخرج، مع اللقطات الأولى؛ حيث يبدو كل واحد منهما في ركن في «الكادر»، بل يعطي الزوج ظهره للزوجة وهو يحادثها، في إيحاء باتساع هوة الخلاف بينهما، وسرعان ما يتأكد المعنى في الحوار المتوتر بينهما، في أعقاب عثور الزوجة على صندوق في داخله مسدس يقول الزوج إنه ورثه عن أبيه الراحل في تجربة مجنونة، لكن الزوجة تنظر إلى الأمر من وجهة أخرى؛ إذ تثمن شجاعة الأب في مواجهة الموت، وتؤمن أنها «تجربة حياة» عليها أن تعيشها، وتُقبل على التجربة مدفوعة برغبة قوية في اختبار شجاعتها وزوجها الذي يستشعر خطورة الأمر، بعد أن تكشف له خيانتها، ويحسم قراره ويوجه المسدس إليها بالفعل، فتخبره أنها تعلم بزواجه من امرأة أخرى منذ أربع سنوات، وتُطلق عليه الرصاص، وتبدأ المكاشفة والمصارحة، ويستمرّ سقوط الأوراق. من ثم يتناوبان على  إطلاق الرصاصة الوحيدة التي لا تخرج من خزانة المسدس، وسط جو من الإثارة التي تزداد حدتها، بالتوظيف المتقن من ناحية المخرج للإضاءة الخافتة، وشريط الصوت والمؤثرات (البلبل، الغرامافون، ساعة الحائط، الألعاب النارية، جرس الباب، النفس المتقطع للزوجة)، وبراعته في استثمار الوحدة المكانية (شقة الزوجين)، والوحدة الزمانية (دقائق قبل وصول الضيوف)؛ فالتجربة بمثابة برهان واضح على أن «الأكشن» يمكن تقديمه من دون تلاحم الأجساد واشتباك الأيدي، وإن تمنيت لو أن المخرج، الذي يبدو واثقاً من نفسه كثيراً، لجأ إلى تكثيف الحوار واستغنى عن جمل تكررت من دون إضافة تُذكر؛ خصوصاً أنه القائم بالمونتاج. غير أن ما يُحسب له، بقوة، نجاحه في إحكام سيطرته على عناصره، وحماية بطليه من الانفعال الزائد.

الأمر المؤكد أن موهبته كانت سبباً في فوز «ستة» بالجائزة الكبرى لـ «مهرجان الدار البيضاء الدولي للفيلم القصير والوثائقي»، وجائزة أفضل فيلم في «مهرجان أرت ديكو» في ساوبولو في البرازيل، بالإضافة إلى جائزة أحسن سيناريو في «مهرجان طنجة السينمائي الدولي»، وجائزة «مهرجان ناووسا السينمائي الدولي» في اليونان، التي يمنحها طلاب أكاديمية ناووسا لأفضل فيلم شارك في المهرجان.