حين أمر {عزيز مصر} المنادين بأن ينادوا باسم الزيبق في شوارع المدينة، صار البطل الشعبي، للمرة الأولى في التاريخ، حاكماً فعلياً للبلاد، برتبة مقدم الدرك وقائد وجاق الزعر، تقول الحكاية الشعبية، إن جميع أهالي مصر فرحوا به واستبشروا مدة عام.

Ad

تخلص الزيبق إذاً من عداوة صلاح الدين الكلبي مؤقتاً، بعدما خشي الأخير ملاعيب الزيبق، لكنه ظل يعاونه، خصوصاً في مواجهة الشطار والطامعين في المنصب و{المقام} الرفيع الذي تولاه.

في هذه الحلقة يواجه الزيبق أول متمرد على سلطته وهو علي بن أحمد الزيات، الذي أراد أن يصل إلى قلب عزيز مصر أحمد بن طولون، عبر الإيقاع بالزيبق في الفخ.

أمر {عزيز مصر} المنادين بأن ينادوا باسم الزيبق في شوارع المدينة، مقدم الدرك وقائد وجاق الزعر، ففرح أهالي مصر. أما صلاح الدين الكلبي، فأخذ الزيبق إلى قاعة الزعر وسلَّمه المقام بحضور جميع المقدمين وحذف اسمه من الكتاب، ووضع اسم علي الزيبق مكانه، ففرح به المقدمون وصار أمره نافذاً عليهم، وبقي صلاح نائباً للزيبق الذي صار ينصف الأمم ويأخذ للمظلوم حقه، وبقي كذلك سنة من الزمان.

قال الراوي: وبينما كان العزيز جالساً ذات يوم في الديوان، وحوله جماعة من الأعيان، إذ بجماعة دخلت عليه وكان أفرادها عراة وهم في حالة الذل والاكتئاب، فسألهم عن حالهم فقالوا:

 {نحنُ عبيدك سكان {المرحومة}، ظهر عندنا في هذه الأيام غلام أمرد، له قوة أشد من قوة الأسد، قتل الأمير وأقلق بفعله البلد، فتكاثر الرجال عليه فأبلاهم بالويل، وارتجت البلد من فعاله، وخاف الناس فأرسلونا إليك لنعلمك بما صار، فتبع أثرنا على الطريق وأخذ ثيابنا وفعل بنا ما ترى، وقال: اذهبوا وخبروا العزيز ما أبصرتم من فعالي، وها قد أخبرناك}.

 فلما سمع العزيز منهم، استغرب تلك الجسارة واستدعى الزيبق إليه، وقص الخبر عليه، فاستشاط الزيبق غضباً وقال: {وحياة رأسك أيها الملك، لا بد لي من إحضار الغريم بين يديك ذليلاً مهاناً، تفعل به ما تريد}.

قال الراوي: وكان الذي فعل تلك الفعال هو بليَّة من البليَّات، يُقال له علي بن أحمد الزيات، كان سمع خبر الزيبق، وما لعبه من المناصف على صلاح الدين في مدينة مصر، حتى ارتقى عند العزيز ونال المجد والفخر، فقال في نفسه: لا بد من أن أقصده وألعب عليه مناصف تتحدث الناس فيها أجيالاً، وأخذ منه المنصب، وتصير لي المنزلة الرفيعة.

وبينما كان علي بن أحمد الزيات، عازماً على مثل هذه النية، بلغه أن عشرة من الرجال يترصدونه ليقتلوه، لأنه كان إذا سمع بأحد خرج قاصداً الفساد، يخرج إليه ويضربه حالاً، لأنه كان حراً لا يطيق تلك الأعمال، ولما شاعت هذه الأخبار عنه، اتفق العشرة رجال وتقلدوا بالسلاح وأخذوا معهم دواعي الطرب وقصدوا بعض المحلات وقالوا في أنفسهم: إذا جاء ابن الزيات إلى هذا المكان قتلناه وأرحنا الناس من شره.

تيس {المرحومة}

فلما بلغ ابن الزيات خبرهم، خرج إليهم بالعصا وصاح فيهم: {ويلكم يا كلاب قد بلغني ما عزمتم عليه من قتلي فأبشروا بالويل والنكد، قد أتاكم الشاطر علي بن أحمد الزيات}، فعند ذلك سلوا سيوفهم وانطبقوا عليه، فتستر بالطارقة وضرب أحدهم بالعصا على رأسه فوقع على الأرض، ثم مال على البقية وزأر فيهم كالأسد الكاسر، فولوا هاربين.

قال صاحب السيرة: ولما تعهَّد الزيبق بإحضار الغريم، خرج من الديوان وأخذ معه أولئك المشايخ، وأعطاهم ثياباً يلبسونها، وعزم أن يكبس {المرحومة} في الظلام العاكر، ويقبض على ابن الزيات، فقال له ابن الحصري: {لا لزوم لخروجك ولكن أنا أقصده في هذه الليلة وأقبض عليه}، فقال له: {اذهب وأقم في {المرحومة} يومين أو ثلاثة وابحث عنه حتى تعرف مقره ولكن إياك أن تشتم أباه أو تتعرض له بسوء}، فسار ابن الحصري من وقته وأخذ جماعة من الزعر حتى وصل إلى {المرحومة} فاختفى في بعض جوانبها حتى مضى أكثر الليل، وبعد ذلك قصد داره ورمى المفارد على السطوح وصعد إلى البيت فاستيقظ أحمد وزوجته وقال: ما الخبر؟

قال ابن الحصري: {مرادي أن تسلمني ولدك}، فحلف له أنه ليس موجوداً في البيت، فأخذ ابن الحصري يبحث في مخادع الدار فما وجده، فخرج من بيت الزيات وقصد منزل السنجق وهو يسأل عنه الرجال، وشاع الخبر في البلد بأن ابن الحصري قد جاء ليقبض على ابن الزيات، وأن كل من يعرف مكانه يأتي إليه ويعلمه به، وبعدما خرج ابن الحصري من بيت الزيات بقليل جاء علي إلى بيت أبيه، وكان ذلك الوقت وقت وصوله من مصر، لأننا ذكرنا أنه كان قد تبع المشايخ إلى قرب المدينة. من هنا كر راجعاً على غير طريق، فلما رآه أبوه أخبره بمجيء ابن الحصري وكيف أنه كبس عليه الدار، ثم طلب أن يختفي خوفاً من سوء العاقبة، فقال: {لا تخف يا أبي، وأني سامع لك}، فنام تلك الليلة في البيت وهو فرحان لأن قصده أن يلعب مع الزيبق مناصف حتى يتقرب إلى العزيز ويصير له المنزلة الرفيعة وعلو الشأن.

ولما جاء الصباح، نهض من فراشه وتقلد حسامه وخرج إلى السوق ودخل دكان {حلاق}، وأخذ المرآة وصار ينظر إلى وجهه، فرأى المزين يومئ إلى خادمه بيده، كأنه يقول له {رح وأعلم ابن الحصري}، ثم جلس خارج الدكان، وبعد قليل أقبل ابن الحصري ومعه خمسون رجلاً من جماعة الزعر، فضرب ابن الزيات {الحلاق} بحسامه فقتله، فصاح {ابن الحصري} وبدأ القتال، فما كان غير القليل حتى أبلاهم علي بالويل، فقتل منهم ثلاثة وجرح سبعة.

ثم هجم عليه ابن الحصري هجمة جبار، فالتقاه علي بقلب أقوى من الحجر، وفي أقل من ساعة صدم علي {ابن الحصري} صدمة الأسد وضربه بالسيف على كتفه فوقع على الأرض مطروحاً، وصاح قائلاً: {أنا في جيرتك يا سيد الشطار وفارس الأقطار}، فرد علي:

- عفوت عنك لأنك استجرتَ بي، عُد إلى رفيقك الزيبق وأخبره بما رأيت من ابن الزيات.

ولما أراد علي أن يصل إلى الزيبق، ذهب إلى شيخ {الجمَّالين} وطلب منه أن يعطيه عشرة جمال وأن يخرج متخفياً ليحمل جرحى المعركة إلى الزيبق، في مدينة مصر، وفي الصباح كان يحمل {ابن الحصري} والمجاريح على ظهور الجمال، حتى وصل بهم إلى قاعة الزعر.

بلغ الزيبق أن ابن الحصري عاد وأنه يقاسي العذاب الأليم من جروحه، فنزل إلى أسفل الدرج، فوجده على تلك الحالة، فسأله عن سفرته فحكى له، فتعجب الزيبق لما سمع ذلك الخبر، والتفت إلى صلاح الدين الكلبي، وقال له: {اذهب أنت في هذه الليلة إلى الحرس لأن مرادي أن أقصد {المرحومة} باكراً}.

وبينما كان الزيبق في طريقه إلى {المرحومة}، كان ابن الزيات يدخل القاعة ويأخذ من الأمتعة والأسلحة، ويدق عنق البواب ويضع طابة في فمه ويربطها بمنديل، وهو يقول له: {متى جاء مولاك الزيبق قل له: إن ابن الزيات قد زارك في هذه الليلة! وهو يقول لك لا بد من أن يأخذ منك {المقام} كما أخذته من صلاح!}.

قال الراوي: ثم عاد الزيبق من {المرحومة}، من دون أن يعرف شيئاً مما صار حتى وصل إلى القاعة ورأى البواب، على تلك الحالة، وسمع من الرجل كلّ ما جرى، وكيف أن ابن الزيات قصد القاعة وأخذ ما قدر عليه من السلاح والأمتعة وحدثه بما قاله، فضحك الزيبق وقال: لقد تجاسر تيس {المرحومة} على أمر عظيم، وسوف يحل به البلاء الجسيم!

تسامح

وعد ابن الزيات أباه بالابتعاد عن {المرحومة} لكنه قصد مدينة مصر، بعدما أخذ من أبيه مالاً يعينه على العيش بمفرده، ولما وصل قصد بعض الحارات حتى وصل إلى دار وسط بستان أعجبته، خصوصاً أن بئر ماء تتوسطها، فقرر أن يغطي فم البئر الفارغ بالسجاد، حتى كلما اقتاد أحد الزعر، تركه يسقط في البئر الفارغ، ليسهل تقييده، إلى أن يستدرج ـ يوماً ما ـ علي الزيبق.

ولما جاء الصباح نهض ابن الزيات ولبس ثياب فتاة، ومسح وجهه ووضع الخطوط على حاجبيه وتقلد الحسام {تحت الثياب} فصار كل من ينظره يقول: ما أحسن هذا الوجه! وطلع يتمشى فمر في زقاق بين الحارات، فرآه خمسة من الزعر بينهم صلاح الدين، فعرفهم ابن الزيات وتبع أثرهم حتى استوقفه صلاح الدين وقال: {تعالوا بنا نروح عند هذه الصبية وننشرح قليلاً}.

وهكذا وقع صلاح الدين ومن معه، في خدعة {ابن الزيات}، وسقطوا جميعاً في البئر فربط وثاقهم، ثم أحضر العشاء فأكل، وعند المساء أخرجهم وقدم لهم الطعام، وأخذ يتحادث معهم عن أخبار الزيبق حتى مضى جانب من الليل، ثم أعادهم ثانية إلى البئر.

أما ما كان من الزيبق، فقد انتظر صلاح الدين طويلاً ولم يعد يصبر، فارتدى زي حمَّار وتقلد الحسام {تحت الثياب} وأخذ يطوف في الأسواق، مصطحباً معه حماراً صغيراً، وضع على ظهره خرجاً كبيراً حتى لا يتعرف إليه أحد، وهو يأمل أن يرى ابن الزيات في بعض الأزقة فيرافقه ليعلم أين مقره ليسهل عليه أمره.

وبينما كان ابن الزيات يمر، مرتدياً زي تاجر، في إحدى طرقات مدينة مصر، مرَّ بزقاق بين الحارات، فالتقى بالشاطر علي الزيبق، وعرفه وتبعه حتى مر بسوق الخضار، فاشترى شيئاً من أحد التجار ونادى على الزيبق ليحملها على حماره، فاستجاب الزيبق ومشى معه إلى البيت.

ولما وصلا وطال بينهما الكلام والجدال أظهر ابن الزيات نفسه للزيبق، وسل في يده السيف البتار، وصدم الزيبق صدمة جبار، وضربه على جنبه فتجنبها، فأصاب الحمار فقطعه نصفين، فلما تحقق الزيبق أن خصمه سلّ حسامه المرصود، وانطبق عليه انطباق الأسود، قال له: {سوف تعلم يا تيس {المرحومة} كيف يكون القتال، وكيف أنك تجاسرت على من هو أقدر منك بالمكر والاحتيال}.

وحين أبصر ابن الزيات من الزيبق العجب، خاف على نفسه من الهلاك، وكان قد كلّ وضعف عزمه وانحل، فناداه: {ارفق بي أيها السيد السعيد، والبطل الفريد، قد رأيت من بحر شجاعتك ما لم أره قبل اليوم من الفرسان الصناديد، فاتخذني لك من بعض الأصحاب أو العبيد}، ثم بادر إلى التراب ولثمها، وطلب منه العفو والأمان، فرحمه الزيبق وقال له: {أبشر بالسلامة والكرامة}.

ثم إن علي الزيبق وعد ابن الزيات أن يأخذه إلى السرايا ويطلب له العفو من حضرة العزيز أحمد بن طولون، {وتكون معروفاً عند أصحاب المناصف وباقي الأعيان، وإن شاء الله لا تلقى هناك إلا كل ما يسرّ به الخاطر}.

وأما الزيبق فإنه بعد ذلك ترك ابن الزيات وقصد القاعة، وبعد ذهابه، من هناك بقليل، أخرج ابن الزيات صلاحاً وجماعته الأربعة من البئر وأطلق سبيلهم، فلما صاروا على وجه الأرض ركضوا مسرعين طالبين القاعة وهم لا يصدقون بالخلاص، فوصلوا إلى هناك على آخر رمق، ومن شدة حيائهم لم يواجهوا المقدم علي الزيبق، وبلغ الزيبق قدوم صلاح فاستدعاه إليه وطلب منه أن يحكي له كلّ ما جرى.

فقال صلاح الدين: {كنت في وليمة عند بعض الأصحاب نهار أمس فطربنا وشربنا وصرفنا ليلتنا في حظ وانشراح، وبقينا على مثل ذلك إلى طلوع الشمس}، ثم حدثه كيف كان ملتقاه مع العايق وما جرى له معه وما قاساه من الشدة ومن أمر الزيارة، فضحك الزيبق وجميع من كان حاضراً لما سمعوا من صلاح الدين.

وأما ما كان من ابن الزيات بعد انصراف صلاح من عنده، لبس ثيابه وتقلد بحسامه وتوجه إلى القاعة في عاجل الحال، فلما دخل وجد الزيبق جالساً ومن حوله المقدمين والأبطال، فنزع سيفه من وسطه ووضعه قدام الزيبق واعتذر وطلب منه العفو عما مضى، وقال: {من ألقى ثقل أحماله على باب مولاه استراح، لأن حصول الراحة هي لمن يرمي السلاح، فلما سمع الزيبق منه هذا الكلام، نهض له على الأقدام، وألبسه سيفه وأجلسه إلى جانبه وأكرمه غاية الإكرام}.

 ولما فرغوا توجه الزيبق إلى العزيز وبصحبته ابن الزيات حتى دخل وسلم عليه، ودعا له بدوام العز والنعم، فأمر له بالجلوس فجلس، وأما ابن الزيات فبقى واقفاً مع جملة الخدم لا ينطق حرفاً، فالتفت العزيز إلى الزيبق وقال له: {أين خصمك ابن الزيات؟ هل ما وقفت له خبراً وأنت كل يوم تعد بأنك تقبض عليه؟}

 قال: {يعيش رأسك أيها الملك، إن كان عليه ذنب فهو يستحق القتل، وإن كان مذنباً فأنت صاحب الإنصاف والعدل}، فأجابه الوزير قيس: {من أين علمت يا علي ألا ذنب عليه، وأنت تعلم ما فعل من الأمور الفظيعة؟}..

قال الزيبق: {وقفت على حقيقة الخبر فما وجدت له ذنباً يستوجب القتل، وها هو واقف الآن في هذا المحضر}، ثم ناداه: {قرب يا ابن الزيات، وقبل الأرض أمام ملكنا العادل}، فتقدم نحو العزيز وقبّل الأرض بين يديه، ووقف أمامه كأنه الأسد الغضنفر.

فقال العزيز: {من أنت ومن تكون من الغلمان؟} قال: {أنا عبدكم ابن أحمد الزيات}، قال: {كيف تجاسرت على قتل السنجق {ممثل الحاكم في المحافظة} وهو أحد رجالي، وفعلت ما فعلت مع المشايخ كأنك غير مكترث بي؟}

 فعند ذلك أخبر العزيز بقصته وكيف أن السنجق اعتدى على أبيه، فالتفت الزيبق وقال: {يعيش رأسك أيها الملك، إن السنجق لا يريد تخليص مال الناس، ومن عوائده ظلم الرعايا، إن عبدك ابن الزيات ما عليه ذنب يستحق به القتل، وعلى كل فالأمر لكم}.

فلما سمع العزيز كلام الزيبق علم أنه يحبه فضحك بوجهه وطيب بخاطر ابن الزيات، ثم أمر لهم بالشراب، ومن بعدها قام ابن الزيات قدام الملك وقال: {يعيش رأسك، أرجو أن أتشرف بخدمتك، وأعيش من الآن فصاعداً في نعمتك}، قال الملك: {يا علي، شد ابن الزيات واجعله من المقدمين والأبطال المنتخبين}، فقال الزيبق: {سمعاً وطاعة}.

إلى الحلقة الخامسة

علي الزيبق (3 - 10) ابن حسن رأس الغول يقتحم القلعة والكلبي يعلن الاستسلام

علي الزيبق (2 - 10) ابن حسن رأس الغول يفضح قائد الدرك في حمَّام شعبي

علي الزيبق (1 - 10) رأس الغول مات مسموماً في حضن جارية الكلبي