الأبنودي ودرويش... مساحات الحنين ويقين العودة إلى الديار
سأل الشاعر عبد الرحمن الأبنودي الشاعر الراحل محمود درويش كيف عرفتني؟ فقال له درويش «عرفتك منك وأعجبتني أنك لم تنتكس مع النكسة».
درويش والأبنودي... قامتان شعريتان عابرتان للحدود، ساكنتان في وجدان كل من عرفهما وقرأ أشعارهما، الأول أهدى جائزته وهو مطمئن إلى الثاني فرد عليه: «سعيد بالجائزة لأنها ربطتني ودرويش في جملة واحدة».
درويش والأبنودي... قامتان شعريتان عابرتان للحدود، ساكنتان في وجدان كل من عرفهما وقرأ أشعارهما، الأول أهدى جائزته وهو مطمئن إلى الثاني فرد عليه: «سعيد بالجائزة لأنها ربطتني ودرويش في جملة واحدة».
ما يجمع الشاعرين هو ما يجمع اليمام والحمام السابح في سماء الشعر، محملين بالأمل ويقين العودة إلى «الغية» والديار، قصيدة طويلة بطول علاقتهما معا منذ أول لقاء جمعهما عام 1968، وكانت القدس فاتحة الإعجاب المتبادل حينما أبدى درويش إعجابه بقصيدة كتبها الأبنودي عن القدس، بعدها كتب قصيدة بالعنوان نفسه:
القدس قدسي..يمامة صيف في غيتهاتطير.. تيجينيبأشواقها.. وغيتهافاكراني من يد صيادهاأنا أغيتها!!***والقدس هي الهدف والغاية أيضا لدى درويش في قصيدته القدس:أمشي كأني واحد غيري.. وجرحي وردةبيضاء إنجيلية.. ويداي مثل حمامتينعلى الصليب تحلقان وتحملان الأرضلا أمشي، أطير، أصير غيري فيالتجلي.. لا مكان ولا زمانرؤية ثاقبةكتب الأبنودي عن حيفا ويافا والجليل وناجي العلي والانتفاضة، وكانت فلسطين حاضرة في أشعاره: «قمر يافا»، «ياعنكبوتة»، «الحارة الفلسطينية»، وفي ديوانه «الموت على الأسفلت»، وحملت أشعاره الأمل رغم العتمة ومتابعة التحليق والطيران، رغم النار والشوق الجارف، رغم البعاد.وإذا كانت الأشعار تتماهى، فالقصائد تتماوج بين شاعر الفصحى الكبير محمود درويش حامل شعلة التراث الفلسطيني والقضية الفلسطينية على كتفيه، وشاعر العامية الكبير عبد الرحمن الأبنودي، حامل التراث الشعري القروي والشفاهي المصري على كتفيه، فهم المبشرون بالأمل والثورة ويبكيهم الحنين للوطن الغائب والمفقود في معناه لدى الأبنودي، وفي معناه ومبناه لدى درويش، فكل منهما يريد العودة إلى أول الأشياء، إلى أمنا الأرض، إلى أول الحقول وبدايات الخريطة، حيث النقاء الفطري والرؤية الصافية للإنسان، فدرويش كما الأبنودي امتلك رؤية عفوية بسيطة ثاقبة إلى قاع النهر رغم عكارة المياه.أعرف..أن التراب يخون جميع المحبين إلا البقاياأجيئك منك انتظاراوأغرق فيك انتحاراأجيئك منك انفجاراوأسقظ فيك شظايا..ويبعث الأمل في كلمات عابرة بسيطة على لسان خديجة عندما تجيب سائلها عن بناتها الخمس اللاتي شاركن في الانتفاضة..في شهر آذار تأتي الظلال حريرية والغزاة بدون ظلالوتأتي العصافير غامضةً كاعتراف البناتوواضحة كالحقولالعصافير ظلّ الحقول على القلب والكلماتخديجة!أين حفيداتك الذاهباتُ إلى حبّهن الجديد؟ذهبن ليقطفن بعض الحجارةقالت خديجة وهي تحثّ الندى خلفهنّوخديجة كما فاطنة لدى الأبنودي وخوفها على حراجي الذي ذهب يعمل في السد العالي وبعثها للأمل في قلبه بكلمات بسيطة وعفوية..طالقالك في البيت فرّوجعلشان لما تعود م الأسوان دي.. تلاقي لك حتة لحم وفي قصيدته عدى النهار..أبداً.. بلدنا ليل نهاربتحب موّال النهارلما يعدّي في الدروبويغنّي قدّام كل داروالليل يلف ورا السواقيزي ما يلف الزمانوعلى النغم.. تحلم بلدنابالسنابل والكيزانتحلم ببكره واللي حيجيبه معاه تنده عليه في الضلمةوبتسمع نداهوفي قصيدته الأحزان العادية..عشب الربيع مهما اندهسبالقدمأو انتنى في الريحبيشب تاني لفوقيغني للخضرة وطعم الألمكذلك ينادي درويش بأعلى الصوت:تحيا بلاديمن الصفر حتّى الجليلويؤكد على الأمل رغم الجراح..وليكن...لابد لي أن أتباهى بك يا جرح المدينةأنت يا لوحة برق في ليالينا الحزينةيعبس الشارع في وجهيفتحميني من الظل ونظرات الضغينةسأغني للفرحخلف أجفان العيون الخائفةمنذ هبّت في بلادي العاصفةوعدتني بنبيذ وبأقواس قزحوفي قصيدته هكذا قالت الشجرة المهملة:خارج الطقس، أو داخل الغابة الواسعةوطنيهل تحسّ العصافير أنّيلهاوطن... أو سفر؟إنّني أنتظر..هل يعرف الفقراءأنّنيمنبع الريح ؟ هل يشعرون بأنّيلهمخنجر... أو مطر؟أنّني أنتظر ..وفي قصيدته الأرض يقول:أنا ولد الكلمات البسيطة شهيدُ الخريطة أنا زهرةُ المشمش العائليةفيا أيّها القابضون على طرف المستحيلمن البدء حتّى الجليلأعيدوا إليّ يديّأعيدوا إليّ الهويّة!تجديد مذهلقال الأبنودي عن درويش عقب تسلمه الجائزة «يعد محمود درويش من أكبر شعراء العربية في عصرنا الحديث، فقد عمل على تجديد القصيدة العربية بطريقة مذهلة، واستطاع أن يطوع قضية الحداثة التي هي أوروبية في الأصل ليكسبها طابعاً عربياً أصيلا على غير هؤلاء الشعراء الذين استوردوا الحداثة، فجعلوا تلك الغربة الطويلة بيننا وبين أشعارهم».وأضاف في تصريحات صحافية: «مضغ درويش الحداثة وجعلها تحت ضرسه، كما كنت أقول له، وانطلق بها ليحرر القصيدة العربية ويعطيها مساحات واسعة للتعبير والتعلم، خصوصاً أنه كان يحتضن قضية من أهم القضايا الإنسانية في العالم اليوم، وهي قضية فلسطين التي لم يتخلَّ عنها يوماً، ولم يغب نظره أو فؤاده عنها في أية لحظة من اللحظات».ويعتبر الأبنودي أول «شاعر مصري» يفوز بـ «جائزة محمود درويش للإبداع العربي» بعدما منحت عام 2010 للروائية المصرية أهداف سويف، مناصفة مع الشاعر والكاتب الجنوب إفريقي برايتن برايتنباخ.