ما يجمع الشاعرين هو ما يجمع اليمام والحمام السابح في سماء الشعر، محملين بالأمل ويقين العودة إلى «الغية» والديار، قصيدة طويلة بطول علاقتهما معا منذ أول لقاء جمعهما عام 1968، وكانت القدس فاتحة الإعجاب المتبادل حينما أبدى درويش إعجابه بقصيدة كتبها الأبنودي عن القدس، بعدها كتب قصيدة بالعنوان نفسه:

Ad

القدس قدسي..

يمامة صيف في غيتها

تطير.. تيجيني

بأشواقها.. وغيتها

فاكراني من يد صيادها

أنا أغيتها!!

***

والقدس هي الهدف والغاية أيضا لدى درويش في قصيدته القدس:

أمشي كأني واحد غيري.. وجرحي وردة

بيضاء إنجيلية.. ويداي مثل حمامتين

على الصليب تحلقان وتحملان الأرض

لا أمشي، أطير، أصير غيري في

التجلي.. لا مكان ولا زمان

رؤية ثاقبة

كتب الأبنودي عن حيفا ويافا والجليل وناجي العلي والانتفاضة، وكانت فلسطين حاضرة في أشعاره: «قمر يافا»، «ياعنكبوتة»، «الحارة الفلسطينية»، وفي ديوانه «الموت على الأسفلت»، وحملت أشعاره الأمل رغم العتمة ومتابعة التحليق والطيران، رغم النار والشوق الجارف، رغم البعاد.

وإذا كانت الأشعار تتماهى، فالقصائد تتماوج بين شاعر الفصحى الكبير محمود درويش حامل شعلة التراث الفلسطيني والقضية الفلسطينية على كتفيه، وشاعر العامية الكبير عبد الرحمن الأبنودي، حامل التراث الشعري القروي والشفاهي المصري على كتفيه، فهم المبشرون بالأمل والثورة ويبكيهم الحنين للوطن الغائب والمفقود في معناه لدى الأبنودي، وفي معناه ومبناه لدى درويش، فكل منهما يريد العودة إلى أول الأشياء، إلى أمنا الأرض، إلى أول الحقول وبدايات الخريطة، حيث النقاء الفطري والرؤية الصافية للإنسان، فدرويش كما الأبنودي امتلك رؤية عفوية بسيطة ثاقبة إلى قاع النهر رغم عكارة المياه.

أعرف..

أن التراب يخون جميع المحبين إلا البقايا

أجيئك منك انتظارا

وأغرق فيك انتحارا

أجيئك منك انفجارا

وأسقظ فيك شظايا..

ويبعث الأمل في كلمات عابرة بسيطة على لسان خديجة عندما تجيب سائلها عن بناتها الخمس اللاتي شاركن  في الانتفاضة..

في شهر آذار تأتي الظلال حريرية والغزاة بدون ظلال

وتأتي العصافير غامضةً كاعتراف البنات

وواضحة كالحقول

العصافير ظلّ الحقول على القلب والكلمات

خديجة!

أين حفيداتك الذاهباتُ إلى حبّهن الجديد؟

ذهبن ليقطفن بعض الحجارة

قالت خديجة وهي تحثّ الندى خلفهنّ

وخديجة كما فاطنة لدى الأبنودي وخوفها على حراجي الذي ذهب يعمل في السد العالي وبعثها للأمل في قلبه بكلمات بسيطة وعفوية..

طالقالك في البيت فرّوج

علشان لما تعود م الأسوان دي.. تلاقي لك حتة لحم

 

وفي قصيدته عدى النهار..

أبداً.. بلدنا ليل نهار

بتحب موّال النهار

لما يعدّي في الدروب

ويغنّي قدّام كل دار

والليل يلف ورا السواقي

زي ما يلف الزمان

وعلى النغم.. تحلم بلدنا

بالسنابل والكيزان

تحلم ببكره واللي حيجيبه معاه

تنده عليه في الضلمة

وبتسمع نداه

وفي قصيدته الأحزان العادية..

عشب الربيع مهما اندهس

بالقدم

أو انتنى في الريح

بيشب تاني لفوق

يغني للخضرة وطعم الألم

كذلك ينادي درويش بأعلى الصوت:

تحيا بلادي

من الصفر حتّى الجليل

ويؤكد على الأمل رغم الجراح..

وليكن...

لابد لي أن أتباهى بك يا جرح المدينة

أنت يا لوحة برق في ليالينا الحزينة

يعبس الشارع في وجهي

فتحميني من الظل ونظرات الضغينة

سأغني للفرح

خلف أجفان العيون الخائفة

منذ هبّت في بلادي العاصفة

وعدتني بنبيذ وبأقواس قزح

وفي قصيدته هكذا قالت الشجرة المهملة:

خارج الطقس، أو داخل الغابة الواسعة

وطني

هل تحسّ العصافير أنّي

لها

وطن... أو سفر؟

إنّني أنتظر..

هل يعرف الفقراء

أنّني

منبع الريح ؟ هل يشعرون بأنّي

لهم

خنجر... أو مطر؟

أنّني أنتظر ..

وفي قصيدته الأرض يقول:

أنا ولد الكلمات البسيطة    

شهيدُ الخريطة    

أنا زهرةُ المشمش العائلية

فيا أيّها القابضون على طرف المستحيل

من البدء حتّى الجليل

أعيدوا إليّ يديّ

أعيدوا إليّ الهويّة!

تجديد مذهل

قال الأبنودي عن درويش عقب تسلمه الجائزة «يعد محمود درويش من أكبر شعراء العربية في عصرنا الحديث، فقد عمل على تجديد القصيدة العربية بطريقة مذهلة، واستطاع أن يطوع قضية الحداثة التي هي أوروبية في الأصل ليكسبها طابعاً عربياً أصيلا على غير هؤلاء الشعراء الذين استوردوا الحداثة، فجعلوا تلك الغربة الطويلة بيننا وبين أشعارهم».

وأضاف في تصريحات صحافية: «مضغ درويش الحداثة وجعلها تحت ضرسه، كما كنت أقول له، وانطلق بها ليحرر القصيدة العربية ويعطيها مساحات واسعة للتعبير والتعلم، خصوصاً أنه كان يحتضن قضية من أهم القضايا الإنسانية في العالم اليوم، وهي قضية فلسطين التي لم يتخلَّ عنها يوماً، ولم يغب نظره أو فؤاده عنها في أية لحظة من اللحظات».

ويعتبر الأبنودي أول «شاعر مصري» يفوز بـ «جائزة محمود درويش للإبداع العربي» بعدما منحت عام 2010 للروائية المصرية أهداف سويف، مناصفة مع الشاعر والكاتب الجنوب إفريقي برايتن برايتنباخ.