ودعتُ قافلةً من أعزاءَ قبلك، على مدى سنواتِ المنفى. كان لكلّ مغادرة وقعُ وترٍ منفرد. حافرٌ يقدح على صفحة القلب، يخلف ندبةً ويثبُ إلى حيث أجهل. ولكن لوثبتكَ المفاجئة، أيها العزيز، ندبةُ حافرٍ حادِّ الحواف بفعلِ فتوّتِه الغضة، وجارحٌ، ولكن عن غيرِ إرادة منك، أعرف. فأنت أكثرُ رأفة بنا، ومحبةً لنا من أن تثبَ بهذا العنف للمغادرة.

Ad

ودعتُ قافلةً لها مُبتدى بلغ مدىً لا يكاد يبين الآن، ولكن ليس لها مُنتهى. فأحدنا، نحن عراقيي الإقامة والمنفى من الأحياء، صار متأهباً على غير اكتراث، كجناح طائرٍ، للمغادرة ولتلويحةِ الوداع.

كنتَ مفكراً، ترأفُ بالانسان، ولا تأمنُ عليه من أفكاره، لأنك صرتَ تعرف أن للفكرة، في أحيان كثيرة، مخالبَ وأنياباً تواقةً لنهش كبده. فكمْ كنتُ أطربُ لحذرك واحتراسك حين تكتب، خشيةً من عضَلٍ ينتفخ، عن غفلةٍ، أو عصَبٍ يتوتر في جملتك الحانية العاقلة. يالله، أيها العزيز، ويا لحماقات الكائن لا يتورعُ من أن يلغَ بجراح أخيه، باسم الفكرة. يالله، أيها العزيز، ويا لقناع الخديعة يُرتدى باسم الله حيناً، وباسم المستقبل حيناً، والمحرّكُ والهدفُ لا يعدو الغريزةَ المتدنية، التواقةَ للسلطة على رقاب من لا حول لهم ولا قوة. يالله، أيها العزيز، ويا لعراقٍ ينزف نخيلُه، وتطفو أسماكُه، وتُنبتُ تربتُه العقارب على مرأى من الجُناة، يكنزون ذهبَه وفضتَه، وعفَنُ لُعابهم الشهواني يُزكم الأنوف. يالله، أيها العزيز، ويا لحرْفٍ يَنسُل من سوء الطوية، وكلمةٍ تُزهر من وحلِ الضغينة والكراهية. وكم كنتَ تنْخَلُ النفسَ أملاً بالحرف والكلمة النافعين.

أنت أهلٌ لكل وداع، أيها العزيز، ممنْ تعرف وممنْ لا تعرف. لأن كلَّ وداعٍ لك يَشي بحلاوته النحلُ الدائر حوله، ولأن كلَّ تلويحةٍ إليك تُعرّي قوسَ قزح يليق بوسامتك. لقد وفَيْتَ ووفّيتَ، مع زوجتك وابنك وابنتك. وبين أصدقائك كنتَ طيّبَ الرائحة. فنحن الآن جميعاً نتأمل خطاك الثقيلةَ المتهاديةَ إلى حيث نجهل، نتأملُها ونبتسم. أعطيتنا كلَّ فرصة للدموع، فالدموعُ مُتنفَّسٌ ورحمة. ولكنك تتحرّج من النحيبِ والندب فأمسكْنا تهيّباً، لأنك تعرف أن طابورَ القتلى، وهو يستطيلُ كلَّ ساعة في بلدك الحزين دون رحمة، هو أولى بالنحيبِ والندب.

شغَلكَ الاعلامُ عن التأليف، ولكن الكتبَ الثلاثةَ التي تركتها لنا كانت مكتنِزةً، لا بفعلِ حذرِك من قِصَرِ الطريق ومن فواتِ الأوان، وأنت خير من يعرفُ أن الموتَ صنو الحياة وتوأمُها، بل بفعلِ الحذرِ من الكلمةِ السائبةِ دون ملاذ لمعنى، والحذرِ من الكتابة التي لا تُحسنُ الحوار، بلْ تُحسن الخطابة وحدها. وأنت تعرف كم تشيع الخطابةُ في لغة مثقفينا وسياسيينا. لأن الآخر لديهم لا يعدو أُذناً صاغية. فكم كنتَ رائعاً في الحوار حتى في غيابك. فأنا مازلتُ أتحدث معك كما كنتُ أتحدث وأنت بدمك ولحمك، ولكن بصمت من يتأملُ هذه المرة. فالموتى، مع أن موتَهم حقٌ، يُخرسونَ ألسنةَ الأحياء بمهابة حضورهم المُبرّأ من الزمان، أيها العزيز.

بقيتَ في شهور مرضك الوجيزةِ تحاورني، وتبادلُني استعارةَ الكتب، وتقترحُ مشاريعَ للكتابة، حتى أنجزتَ كتابك "من لا يكره بغداد!" ولم يكن الموتُ ثالثَنا لحظةً واحدة. بالرغم من أن ثيابه الخشنةَ تشي بحركته التي لا تهدأ.

كنتَ كريماً مع الحياة، تمنحها حقَّها من العِرفانِ بالجميل. وحين تذكرُ المرضَ، تذكرُه بموضوعية إعلامي يتناولُ خبراً من الأخبار، حذراً من أن يُفسدَه بعواطفه الشخصية. وبقيتَ على إيقاعك الرائق، حتى وأنتَ تُنقل إلى المستشفى بين يومٍ ويوم. وفي الساعات الأخيرة، وأنت في زورقك المُطعَّم بلون الشذر، كنتَ مستسلماً عن رضا للأمواج، تأخذُك بعيداً عن الساحل الذي نقف عليه، ونسميه عن جهالةٍ ساحلَ الأمان.  

*الكاتب والإعلامي أحمد المهنا (1954- 24/7/2014)