الكأس نصفها ممتلئ أم نصفها فارغ؟!

Ad

يطرح الخبيران الاقتصاديان سايمون إيفينت ودوغ إيروين أدلة مؤثرة للتدليل على نظرتيهما المتعارضة بشأن ما إذا كانت العولمة تشهد أعراضاً حرجة من الاضطرابات؟ ويتوقف الجواب إلى حد كبير على كيفية ردك على تساؤل آخر: "بماذا نقارن"؟

يلحظ المتفائلون، من جانبهم، كيف كانت الميول الحمائية أكثر جموداً وسكوناً في أعقاب الأزمة المالية العالمية بقدر فاق التوقعات وذلك في ضوء عمق الركود الناجم. ويقول إيروين إن العولمة ربما توقفت لكنها لم تتخذ مساراً عكسياً.

وفي مناقشة عامة حديثة في "معهد بيترسون" خصصت لمناقشة القضية المطروحة في مناظرة "الإيكونوميست" الخاصة، لاحظ أرفيند سابرامانيان أنه في ضوء كيفية تغلغل الواردات الصينية في الأسواق الأميركية، كان من اللافت مدى ضآلة حجم المقاومة والردود من جانب أنصار الإجراءات الحمائية.

من جانبه، يقارن إيفينيت بصورة معاكسة الوضع الراهن مع "الأيام الذهبية التي سبقت الأزمة المالية العالمية"، ويرى دليلاً واضحاً وقاطعاً على أن صناع السياسة قد انتهكوا روح التجارة الحرة والأسواق الحرة، لكن ليس بالأسلوب الصارخ الذي ألفناه.

فوارق ضئيلة

في حقيقة الأمر، فإن الفارق بين الصورتين يبدو ضئيلاً، فأنا مقتنع، مثل البروفيسور إيروين، بأن التكامل الاقتصادي والتقنية أحرزا تقدماً مهماً إلى نقطة أصبح من الصعب معها تراجع العولمة، حتى في غياب دعم سياسي قوي، لكن العولمة أكثر من مجرد أرقام فهي حالة ذهنية. وقد أصبح صناع السياسة في داخلهم أنفسهم أكثر تشككاً في العولمة المنفلتة غير المقيدة. ويستشهد البروفيسور إيفينت ببعض الأمثلة على ذلك من المجالات التجارية، أما بالنسبة إلي فسأنظر إليها من الجوانب المالية.

لقد سعت الجهات التنظيمية في الولايات المتحدة وأوروبا إلى تحجيم قدرة المؤسسات المصرفية العالمية على الأداء حتى لا تصبح بمنزلة قناة ناقلة لـ"العدوى" في الأزمة التالية. والباعث هنا ليس حمائياً بل قومياً: لم يعد لدى صناع السياسة ثقة في نظرائهم في دول أخرى إزاء دعم المعايير العامة حول سلامة البنوك. وتمثل التأثير في تقويض نماذج إدارة الأعمال التي جعلت العولمة المالية ممكنة.

وقد أشار الباحث جوزيف غاغنون، وهو مشارك آخر في المناقشة العامة المشار إليها سلفاً لـ"معهد بيترسون" إلى أن العالم ميز بصورة صحيحة بين القيود على العولمة المالية واضعاً علامة (جيد) أما العولمة التجارية (سيئ). وبينما أشادت النخب بهذا التمييز بين النوعين من العولمة، لم ينسحب ذلك على الناخبين والسياسيين بصورة عامة.

وعلى سبيل المثال، فإن الأحزاب المتطرفة التي وصلت إلى السلطة في شتى أنحاء أوروبا تميل إلى معارضة التمويل الخارجي، والهجرة، وزيادة التكامل الاقتصادي والنقدي الأوروبي، وفي أميركا جمع العديد من الديمقراطيين وباراك أوباما نفسه عنصري الإفراط المالي والعولمة التجارية معاً بوصفهما عوامل تدفع نحو التفاوت واللامساواة وركود أجور الطبقة المتوسطة. وفي الوقت الذي لم يطالبوا باتخاذ مسار عكسي لأي منهما، فإنهم اكتفوا بالسعي إلى إدارتهما بشكل أفضل، وينبع ذلك من اعتقادهم بأن الأسواق الحرة إذا تركت للعمل وفقاً لأساليبها دون تقييد ستحدث الكثير من الضرر.

ويقول أحد القراء المعلقين على المناظرة على موقع "الإيكونوميست" "لكي نعيد طرح الاقتصادات الغربية كنماذج تحتذى من بقية دول العالم يتعين علينا تنظيم الشركات بحيث توجه تركيزها إلى الاقتصادات والوظائف الغربية بدلاً من جني الأرباح العالمية".

إبطاء مسار العولمة

يرى البروفيسور إيروين أن العولمة تجد طريقها من أجل تفادي جهود الحمائيين. أوافقه الرأي؛ فعندما أصرت الهند على متطلبات تلزم بضرورة وجود محتوى محلي من نوع معين واحد لخلايا كهروضوئية، فإن ذلك تسبب ببساطة في أن شركات توليد الطاقة أخذت في استيراد نوعية مختلفة. لكن السياسة، إذا تحولت إلى عنصر عدائي بما فيه الكفاية، فإنها قد تدفع حتماً إلى إبطاء مسار العولمة، وإلى توليد تشوهات تنتقص من قيمتها.

وكان البروفيسور إيروين محقاً حين قال إن "نهاية التجارة الحرة" كُتبت مرات عدة من قبل، مشيراً بشكل خاص إلى مقالات مثيرة للقلق نشرت في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، لكن ما تجدر ملاحظته أن العولمة لم تعكس مسارها في ذلك الوقت، إذ اقتصر الأمر على توقفها فحسب. وتراجعت البنوك الغربية عن مشاريعها المشتركة المتعثرة لإقراض الدول الأقل تقدماً، وانهارت اتفاقية "بريتون وودز"، كما أعاقت الهزات النفطية والركود انتشار التجارة، وحلت التجارة في الصلب والسيارات والقطاعات الأخرى محل الحديث عن التجارة الحرة.

ورغم حديثه وكلامه المنمق عن تحرير الاقتصاد والتجارة، كان رونالد ريغان أكثر رؤساء أميركا حمائية منذ عهد هربرت هوفر. وكانت إحدى النتائج في هذا الصدد أن سارعت شركات صناعة السيارات اليابانية إلى نقل مصانع إنتاجها إلى الولايات المتحدة من أجل تفادي ممارسات التمييز عبر الحدود، وقد حل ذلك محل أحد أشكال العولمة "الاستثمارات الخارجية المباشرة"، عبر "صادرات السيارات".

 وبالمثل فإن شركات الأسواق الناشئة انخرطت بصورة تامة في عملية التوسع في الخارج، لكن نظراً لأن العديد منها يتمتع بدعم رسمي علني أو ضمني، فإن هذه الهجمات كانت بمنزلة تحديات لمثالية العولمة التي لا يعيقها التشوهات الناجمة عن التدخل الحكومي.