{وصف تركيا الكمالية} لفؤاد حمزة... بين الطغيان والعنصرية
صدر حديثاً عن دار الجديد كتاب «وصف تركيا الكمالية... 1943-1945»، للباحث والدبلوماسي العربي فؤاد حمزة. الكتاب من تدقيق محمد نور الدين وتحقيقه.
في مقدمته لكتاب “وصف تركيا الكمالية... 1943-1945”، يلفت الكاتب محمد نورالدين إلى أن المؤلف فؤاد حمزة وصل إلى أنقرة بعد خمس سنوات فقط على وفاة أتاتورك، ليقف بالفعل على مآلات تركيا وهي في ذروة مخاضها. فقد كانت التجربة التركية قوية ومثيرة ومؤثرة إلى درجة استأثرت بمعظم اهتمام فؤاد حمزة، فسبر غورها وعينه على ما يجري في الخارج من حرب عالمية طاحنة ومدمرة، فانكب على كتابة ما رآه معيداً القارئ إلى الجذور. تفاصيل يُظن أنها هامشية ولكنها تشكل مرآة كاملة للحراك الداخلي وشهادة عليه في مرحلة كانت بالفعل نهاية حقبة، وبداية جديدة من تاريخ تركيا في الداخل والخارج بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.يضيف نور الدين أن المؤلف نجح في وصف تركيا الأتاتوركية في موقعيها العلمي والتاريخي. إذ أن تجربة أتاتورك لم تكن وليدة لحظتها أو نتاج عفوية وانفعال بل كانت ثورة بكل معنى الكلمة، غيّرت وجه تركيا رغم محاولات التيار الإسلامي كافة في الانقضاض عليها في العقود المتلاحقة. ذلك أن هذه التجربة كانت رائدة، مثيرة للجدل. ولكنها فتحت نافذة أمام خيارات لا مناص من الاستفادة منها في مسيرة التحديث، وهو ما يفسر نسبياً تقدم تركيا في أكثر من مجال على الدول الإسلامية الأخرى.
عاد فؤاد حمزة إلى جذور التجربة الكمالية، لا سيما في بعدها القومي الذي لامس العنصرية. فقدم فصولاً ثمينة في كيفية تشكل الفكر القومي التركي الذي تبنته الجمهورية، خصوصاً في ما يتعلق بمُنظر القومية التركية ضيا غوك ألب. ولعل الأهم أن الكاتب قد عرض لكيفية ترجمة هذه النزعة القومية خلال عهد أتاتورك وصولاً إلى الفترة التي عاش فيها في تركيا (1943-1945).تجربة أتاتوركعرض الكاتب أسس الدستور التركي والمؤسسات التي أنشأها أتاتورك من حزب الشعب الجمهوري إلى الجمعيات التاريخية واللغوية والنوادي الشعبية وجهود تغيير الحرف وتتريك اللغة. ومن ثم عرض بشكل مفصل لطبيعة المؤسسات العسكرية وقضايا الاقتصاد. رسم فؤاد حمزة خارطة شاملة للتجربة، استناداً إلى أرقام رسمية، لكنه لم يبخل بتضمينها ما عرفه من معطيات ومعلومات وآراء استقاها شخصياً من خلال لقاءاته وأحاديثه مع المسؤولين والدبلوماسيين الأجانب.ينتقد فؤاد حمزة الدولة العثمانية التي “لم تسع إلى جمع الكلمة وتوحيد الصفوف” ولم تبال باستصراخ الأندلسيين و”لم تكن سياسة الدولة في الشؤون الدينية ولا المذهبية مستقيمة إذ لم تكن تتبع روح الإسلام وسماحته”. كذلك “أساءت السلطنة ولا شك إلى العناصر غير المسلمة وأفرطت في إعناتها وقهرها” و”ليس من العدل أن ننسى أن المعاملة السيئة التي تلقاها المسيحيون في البلاد العثمانية كانت مما لم يسبق له مثيل في تاريخ الإسلام السمح”. ولم يتردد المؤلف في اتهام الأتراك بأنهم تعمدوا عدم الاعتراف بوجود الأقليات غير المسلمة “التي عملوا على إبادة القسم الأعظم من رجالها بالتشريد والتهجير والتقتيل” منذ الفترة العثمانية وصولاً إلى مرحلة أتاتورك حيث لم يكن الأتراك يؤمنون بالعناصر غير التركية حتى ولا المسلمة فيها. في الفصل الخامس الخاص بحزب الشعب الجمهوري وصف فؤاد حمزة، بجرأة، النظام التركي بأنه دكتاتوري لا يختلف بشيء عن الأنظمة الدكتاتورية في روسيا الشيوعية وألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية. “هناك حزب يحرم غيره من العمل ويسيطر على أكثرية الشعب ويدّعي أنه يمثل مجموع الأمة”. والكل يعود إلى إرادة “الزعيم الذي يأمر وعلى الحزب الطاعة وتطبيق أوامره ورغباته”. ويعكس المؤلف كبد الحقيقة عندما يقول إن أعمال الدولة الجوهرية تتقرر في اجتماع قيادة الحزب ومن ثم يمر في البرلمان “مراعاة للأشكال لا أكثر ولا أقل”.تتريك اللغةاعتبر فؤاد حمزة أن مصطفى كمال قام بعمل عظيم وخالد، لا سيما في مضامير الاجتماع والثقافة والدين. فأمن الاستقلال السياسي والوحدة القومية وفصل الدين عن الدولة وحاول بناء تركيا على المبادئ الأوروبية الحديثة. ورغم اعتراض المؤلف على الرغبة العنصرية في تتريك اللغة واستبعاد المؤثرات العربية فيها، واعتبار تغيير الحرف قد أصاب علاقات تركيا بالشرق في الصميم، غير أنه لم يعارض تغيير الحرف وكان من مؤيدي اعتماد الحرف اللاتيني. حيث يقول حمزة “ومع أنني بصفتي العربية آسف لانفصال الأتراك وابتعادهم عن ثقافتنا، إلا أني أعذر الأتراك وأرى أنهم من وجهة نظرهم القومية قد أحسنوا صنعاً في اختيار الأشكال الكتابية اللاتينية لكتابة لغتهم”.يتناول حمزة مواضيع كثيرة عن تاريخ تركيا وبعض القضايا المتعلقة بتركيا الكمالية بين 1943-1945، حيث يفتتح كتابه بالحديث عن يقظة الشعوب التركية، ثم الحركة القومية بعد إعلان الحرية، وعن ضيا كوك آلب فيلسوف الفكرة الطورانية، والعصبية الجنسية والقومية التركية. يسلط حمزة الضوء أيضاً، على الكمالية وحزب الشعب الجمهوري التركي، ويخصص فصلاً للحديث عن الغازي مصطفى كمال أتاتورك. ويتحدث في فصول الكتاب اللاحقة عن قلب التاريخ التركي، واليقظة اللغوية، والسكان وأصولهم، وعن الجمعيات والنوادي الوطنية، والجيش الوطني وأخيراً عن الثروة الوطنية والاقتصاد الوطني التركي.المؤلف فؤاد حمزة لبناني الجنسية من بلدة عبيه في جبل لبنان، انتقل من قريته إلى بيروت فدمشق والقدس، ومنها إلى المملكة العربية السعودية حيث اصطفاه الملك عبد العزيز مترجماً شخصياً له، قبل أن يتدرج مستشاراً فوكيلاً لوزارة الخارجية الناشئة، فسفيراً إلى كل من فرنسا وتركيا حيث أسس في كل من العاصمتين سفارة للمملكة العربية السعودية.شغل حمزة منصب السفير السعودي في تركيا (1943- 1945)، حيث عاش التجربة الكمالية عن كثب. ويشكل هذا الكتاب رؤية حمزة للتجربة الكمالية في تلك الفترة. هذه الرؤية، وإن لم تعكس بالضرورة رأي المملكة الرسمي أو موقفه كسفير لدى تركيا يومذاك، فإنها تعبر عن وجهة نظر “المثقف” فؤاد حمزة صاحب الحنكة السياسية والدبلوماسية الراقية، والتحليل الثاقب.