ثمة سببان يُظهران لمَ قد لا ينجح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في تخطي فضائح الفساد الأخيرة في الحكومة التركية. وإن تمكن من ذلك، فستكون الكلفة التي يتكبدها "النموذج التركي" كبيرة.

Ad

السبب الأول تُهم الفساد. فمن عوامل نجاح حزب العدالة والتنمية، الذي ساهم أردوغان في تأسيسه عام 2001، اسم هذا الحزب: فيشير اسمه في اللغة التركية إلى "البياض" أي "النقاء". كان الأتراك قد سئموا من فساد الحكومات السابقة الذي كان يمر بدون أي محاسبة. وهكذا وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، واعداً بالطهارة والأمانة.

لكن صورة حزب العدالة والتنمية تبدو اليوم مشوهة إلى أبعد الحدود. لا شك في أن التسعة والثمانين شخصاً، الذين اعتُقلوا حتى اليوم بتهم الفساد وتبييض الأموال، يُعتبرون أبرياء إلى أن تثبت إدانتهم، وأن المدعين العامين الذين يتولون هذه القضية هم أنفسهم مَن تولوا ما يُدعى القضية الحاسمة ضد الجيش بشأن الوثائق المزورة. رغم ذلك، تبقى القضايا الثلاث المتزامنة التي فُتحت، كما أشارت وسائل الإعلام التركية، مسيئة جداً.

على سبيل المثال، تشمل إحدى هذه القضايا رشاوى مزعومة بقيمة 70 مليون دولار ترتبط برجل أعمال أذربيجاني معتقل حالياً ومتهم بتهريب الأموال إلى روسيا وبالمتاجرة بالذهب مع إيران. كذلك عثرت الشرطة على 4.5 ملايين دولار مخبأة في علب أحذية في منزل مشتبه به آخر، سليمان أسلان، المدير العام لبنك Turkiye Halk Bankasi AS الذي تديره الدولة. ولا شك في أن هذا مبلغ ضخم جدا ليخبأ في علب أحذية. وهذا هو البنك ذاته الذي تناولته رسالة في 14 مايو وقعها 47 عضواً في الكونغرس اشتكوا من تمويله تبادل الذهب مع إيران.

لم يُعتقل حتى اليوم أي وزير في الحكومة، إلا أن أولاد ثلاثة منهم أوقفوا. وتشير التقارير الإخبارية التركية الأخيرة إلى أن المدعين العامين طلبوا من البرلمان رفع الحصانة عن آبائهم، فضلاً عن وزير رابع.

تجعل كل هذه التطورات أردوغان في موقف حرج. كان نفوذه قد تراجع لأن ائتلاف المحافظين المتدينين، والقوميين، والليبراليين، الذي بناه منذ عام 2001، قد تفكك بحلول الصيف الماضي مع تظاهرات "منتزه جيزي". وها هو اليوم يخوض حرباً مع عدد من حلفائه المقربين السابقين في قاعدته المحافظة المتدينة، مجموعة يقودها الزعيم الديني فتح الله غولين.

بما أن أردوغان حصر السلطة بعدد من الرجال المقربين منه، فإن احتمال أن يكونوا فاسدين سيؤثر مباشرة في صورته ودعمه الشخصيين. ولهذا السبب لم يُقِل أردوغان الوزراء الأربعة: يدعي أن المزاعم الموجهة ضدهم تشكل جزءاً من مؤامرة للإطاحة به. وأعتقد أنه محق. لكن رد فعله هذا يوصلنا إلى السبب الثاني الذي يُظهر أنه لن يتمكن من تخطي هذه المرحلة، مع أنه أقوى من غولين: أردوغان نفسه.

لا شك في أن أردوغان سياسي مميز، ومن أكثر السياسيين الذين التقيت بهم ذكاء. ولكن منذ انتصار حزب العدالة والتنمية الساحق في انتخابات عام 2011، حين أعلن أردوغان بدء "مرحلة الإتقان"، يبدو أنه أضاع بوصلته السياسية التي كانت تحدد له متى يكون عليه التصرف بطريقة عملية والحد من خسائره. فرَد فعل "الكر والفر" الذي كان يعتمده ما عاد يشمل اليوم سوى "الكر".

في وجه هذه المزاعم، أقال أردوغان عشرات رؤساء الشرطة في اسطنبول شاركوا في عمليات التوقيف، علماً أنه كان قد دافع عنهم وأثنى على تصرفاتهم خلال تعاملهم مع المتظاهرين في "منتزه جيزي" في مطلع هذه السنة. ويدَّعي أردوغان أن قضايا الفساد تشكل جزءاً من المؤامرة ذاتها التي كانت تقف وراء تظاهرات منتزه جيزي، والتي تنفذها المجموعة الغامضة نفسها من المتآمرين الدوليين. إلا أن الشرطة، التي تولت قمع المتظاهرين، باتت اليوم جزءاً من هذه المؤامرة أيضاً.

هذه حجج واهية. ولإثباتها وإلصاق التهمة بداعمي غولين في الشرطة ومكتب المدعي العام والمحاكم، على أردوغان أن يمارس عملية قمع تقوض ما تبقى من مؤسسات تطبيق القانون المستقلة في تركيا، فضلاً عن حريات الإعلام. ومن المؤكد أن هذا سيشكل ضربة قوية إلى ما يُسمى "النموذج التركي"، تلك الفكرة التي تعتبر أن تركيا نجحت في تطبيق ديمقراطية حقيقية في العالم الإسلامي. وسيشكل ذلك مأساة حقيقية لأن النموذج التركي حقيقي ومهم، وإن كان مبالغاً فيه، ومبسطاً أكثر من اللازم، ويتعرض لضغوط كبيرة اليوم.

ثمة مسار آخر يستطيع أردوغان اتباعه. فيمكنه استغلال هذه الفرصة لإقالة بعض أسوأ الوزراء في حكومته الذين طالتهم فضيحة الفساد:

• ظافر كاغلايان، وزير الاقتصاد الذي أعلن أنه يعاني "حساسية تجاه معدلات الفائدة"، ودعم نظرية أردوغان الاقتصادية المثيرة للاهتمام بأن معدلات الفائدة العالية تسبب التضخم.

• وزير الداخلية معمر غولر، رجل أعلن أخيراً أن من الضروري منع المساكن المختلطة في الجامعات لأن "المنظمات الإرهابية بدأت تستغل العلاقات بين الشبان والشابات في الجامعات. فتستخدم هذه العلاقات كوسيلة للتجنيد". يا للعجب!

• وزير التنمية والتخطيط المدني أردوغان بيرقدار الذي أعلن ذات مرة أن الأتراك مسلمون يعيشون في منطقة صعبة، لذلك "نعجز عن الابتكار والتوصل إلى اكتشافات. نحن بلد زراعي. فماذا نستطيع فعله؟".

• وزير شؤون الاتحاد الأوروبي إغيمن باغيس، الذي أعلن كلماته التي لا تُنسى خلال تظاهرات "منتزه جيزي" في مطلع هذه السنة: "سيُعامل كل مَن يدخل ساحة تقسيم كإرهابي". ويُعتبر ناقلاً أميناً لأفكار أردوغان الأخيرة. إلا أنه لا يتمتع بالمؤهلات الضرورية ليكون وزيراً.

اعتُقل أبناء الوزراء الثلاثة الأوائل في هذه اللائحة. وفيما يُعالج أردوغان هذه المسألة، عليه التخلص أيضاً من مستشاره الجديد يغيت بولوت، الذي اتهم عدداً من المراكز في الخارج بمحاولة قتل أردوغان عبر "التحريك عن بعد telekinesis". لا أتجرأ على تخيل النصائح التي يسديها إلى أردوغان.

كان هؤلاء الرجال سابقاً أعضاء على هامش الحكومة التركية، بيد أنهم نجحوا في اكتساب أهمية كبيرة، مبعدين الرجال الأقوى الذين اعتاد أردوغان الاعتماد عليهم، مثل نائب رئيس الوزراء علي باباجان في مجال الاقتصاد. يجب أن يتصرف أردوغان بحزم، متخلصاً من الوزراء الأربعة المستهدفين كي يصبوا كل اهتمامهم على التحقيقات بشأن الفساد. وعليه أيضاً أن يقدم كل دعمه لهذه التحقيقات، مبرهناً أنه لا يحمي نفسه، وأنه مازال ملتزماً بوعد "النقاء" الأصلي الذي قطعه حزب العدالة والتنمية.

أشك في أن يقدِم أردوغان على خطوات مماثلة، بل سيعتبرها هزيمة لأنه سيُضطر إلى مشاطرة السلطة والنفوذ مع أشخاص لم يوافقوه الرأي دائماً. كذلك لن يصبح أول رئيس كامل الصلاحيات السنة المقبل، كما يخطط، بعد الانتخابات الرئاسية المباشرة الأولى في تركيا. أعتقد أنه سيُقاوم بما أنه يعرف السبيل إلى ذلك، وقد يفوز. لكن أردوغان، الذي عرفناه قبل عقد ونجح بمهارة في تفادي الأشراك السياسية التي نصبها له الجيش وداعموه، كان سيقوم بخيار أفضل، وما كان ليوقع نفسه في مأزق مماثل، وكان سيصغي لما يدور من حوله بالتأكيد.

مارك تشامبيون - Marc Champion