دانت المحكمة الجزائية المتخصصة في الرياض 15 متهماً باعتناق المنهج التكفيري وترويج كتب منظريه، ودعم الإرهاب وتمويل سفر الشباب المغرر بهم إلى مواطن الفتن والقتال، وحيازة الأسلحة والتستر على المطلوبين أمنياً، وغيرها من التهم التي استوجبت سجنهم وحماية المجتمع من ضلالاتهم. لقد عانت المملكة العربية السعودية على امتداد العقدين الأخيرين ضراوة الإرهاب وبشاعة جرائمه التي أودت بحياة المئات من المدنيين والعسكريين، والمئات من الجرحى والخسائر الفادحة، وخاضت حرباً طويلة مع الإرهاب، لكنها نجحت في القبض على معظم عناصره والقضاء على أبرز رموزه.

Ad

 وتبنت السعودية استراتيجية متكاملة: أمنياً وإعلامياً وفكرياً واجتماعياً وتشريعياً، لمكافحة الإرهاب، تقوم على جانبين:

- الوقائي والعلاجي، في الجانب الأمني: يذكر للأمن السعودي نجاحه في توجيه ضربات استباقية أجهضت ما نسبته 95% من المخططات الإرهابية، وهو (رقم غير مسبوق)، وفي الجانب الفكري الاجتماعي: أنشئت "لجنة المناصحة" من علماء الشريعة والتخصصات الاجتماعية والنفسية، تقوم بتصحيح المفاهيم المغلوطة لدى الموقوفين من الشباب المضلل بهدف إعادة تأهيلهم للاندماج في المجتمع وتمكينهم من العيش الكريم.

 وفي الجانب التشريعي: صدرالعديد من التشريعات بتجريم الإرهاب وإبعاد الخطباء المحرضين وضبط العمل الخيري، توج مؤخراً بصدور الأمر الملكي القاضي بـ:

1- تجريم السعوديين الذين يقاتلون خارج البلاد أو ينتمون إلى جماعات دينية أو فكرية مصنفة كمنظمات إرهابية، داخلياً أو إقليمياً أو دولياً، أو تبني أفكارها أو مناهجها، ودعمها مادياً أو معنوياً، بالسجن 3-20 سنة.

2- تجريم كل من يفصح عن التعاطف مع الجماعات والتيارات المصنفة إرهابية، بأي وسيلة كانت، أو تقديم أي من أشكال الدعم المادي أو المعنوي لها أو التحريض على شيء من ذلك أو التشجيع عليه أو الترويج له بالقول أو الكتابة بأي طريقة. دعونا نتساءل: لماذا يتطرف شباب في عمر الزهور ويتحول إلى قنبلة بشرية؟! العوامل عديدة: النفسية القلقة، العقلية التي تعتقد تملكها الحقيقة المطلقة، التربية غير السوية، البرمجة الثقافية الخاطئة، التعليم الأحادي التلقيني، خطاب الكراهية، الخطاب التحريضي التكفيري... إلخ، لكن أخطر العوامل وأكثرها تأثيراً، هو "الخطاب التحريضي التكفيري".  إن معركتنا الكبرى مع الإرهاب هي معركة لاستعادة عقول وأفئدة مختطفة من دعاة الخطاب التحريضي التكفيري، التكفير هو أصل الإرهاب، من يسهل عليه تكفير المسلم يسهل عليه استباحة دمه، التكفير هو جواز مرور للقتل، والإرهاب ثمرة الفكر التكفيري، و"عمليات التفجير" الثمار المرة لـ"عقيدة التكفير" أكدتها سلسلة العملية الإرهابية عبر 4 عقود، بدءاً بالمجازر الرهيبة بالجزائر، مروراً بمصر والسعودية والشيشان وباكستان وأفغانستان والعراق وسورية ولبنان واليمن ومدريد ولندن وغيرها، وصولاً إلى الإرهاب الذي توحش وأصبح أكثر ضراوة وفتكاً، اليوم، يستهدف تجمعات البسطاء في الأسواق ودور العبادة ومحطات الحافلات والمطاعم الشعبية حتى المستشفيات والمقابر. لقد جنّ الإرهاب وأصبح هدفه الأسمى إزهاق أكبر عدد من البشر، يندس الانتحاري فيهم ليفجرهم، هذا النوع من الإرهاب المتوحش لم تعرفه البشرية من قبل، مع أن ديننا أكد حرمة الانتحار وجعله من الكبائر العظمى، والنصوص قاطعة وصريحة لا مجال للاجتهاد فيها، بل حرم الإسلام تفجير النفس ولو في العدو، فضلاً عن المدنيين من النساء والأطفال الذين لا يقاتلون، بل حرم علينا أن نجاري العدو في عدوانه على المدنيين، في قتله للنساء والأطفال، فلا نجاريه بالمثل بحجة أن هؤلاء مغتصبون أو مجندون احتياطيون، لأن المعاملة بالمثل في ديننا مقيدة بضوابط الفضيلة والإنسانية، فما الذي جعل بعض شبابنا يتسابقون في الموت ظناً بأنه "أسمى الجهاد"؟! إنه "الخطاب التحريضي التكفيري" أصل الداء والبلاء، والمهدد الأمني الأكبر للسلم الاجتماعي في مجتمعاتنا، والمولد للعنف والترويع والإرهاب.  كان لافتاً تضمن "إعلان الكويت" الصادر من القمة العربية في الكويت، إدانته الحازمة للإرهاب بجميع أشكاله وصوره، رافضاً دوافعه ومبرراته، وداعياً إلى العمل الجاد لاقتلاع جذوره، وتجفيف منابعه الفكرية والمادية، ومطالباً بوقف كل أشكال النشر أو الترويج الإعلامي له، أو التحريض على الكراهية والتفرقة والطائفية والتكفير وازدراء الأديان والمعتقدات.  وفي هذا السياق يهمنا ذكر ما تضمنه "بلاغ مكة" الصادر في ديسمبر 2005، بمحضر من قادة العالم الإسلامي، الذين أكدوا عزمهم على مواجهة الفكر التكفيري وإدانتهم الشديدة للإرهاب في كل صوره: دعماً أو تمويلاً أو تحريضاً أو تبريراً، وتضمن البلاغ تأكيد المؤتمرين "صحة إسلام" كل المذاهب الإسلامية المؤمنة بأركان الإسلام، وذلك لقطع الطريق على دعاة الإرهاب الذين كفروا "الشيعة" في العراق، تبريراً لعملياتهم الإرهابية.

 إن تكفير المسلم جريمة عظمى في حق الإسلام والإنسانية، لما يترتب عليه من آثار خطيرة على أسرته وأهله فضلاً عن استباحة دمه، وهو أعظم إثم يرتكبه مسلم في حق أخيه المسلم، ونذكر هنا بكل تقدير، فتوى "هيئة كبار العلماء" بالسعودية، المحذرة من التكفير وما يترتب عليه من انحرافات تؤدي إلى اغتيالات وتفجيرات وإزهاق أرواح وإتلاف أموال معصومة.

 لقد أتت هذه الفتوى في سياق فوضى التكفير الذي ساد المنطقة، ولم يسلم منه أحد، بدءاً بتكفير الفنانين وانتهاءً بتكفير الكتّاب والمفكرين، وفي هذا السياق أذكر أنه قبل عدة سنوات، أجيزت رسالة للدكتوراه، بامتياز، من إحدى الجامعات السعودية، لباحث عن رسالته "الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها" كفر فيها الباحث 200 مثقف ومفكر عربي، هم نخبه فكر الحداثة والعقلانية والتنوير، قال عنهم: إنهم كفرة ومرتدون يجوز قتلهم، والمصيبة أن هذه الرسالة طبعت في كتاب منشور ومتداول، والأحرى بالجهات المسؤولة في السعودية، الحريصة على مكافحة الإرهاب، مصادرة هذا الكتاب ومنع توزيعه لما يترتب عليه من آثار خطيرة، ولا يقال هنا: لماذا تضيقون بوجهات النظر؟! لماذا تصادرون حريات الرأي والتعبير؟! الجواب: التكفير ليس مجرد وجهة نظر، إنه تصريح بالقتل، وافتئات على السلطة، وإجرام عظيم.

*كاتب قطري