انفرد مهرجان الأقصر للسينما الأوروبية والمصرية، في دورته الثانية (19- 25 يناير 2014)، بالعرض العالمي الأول للفيلم الروائي الطويل "لمؤاخذة”، من تأليف عمرو سلامة وإخراجه.

Ad

 خاض سلامة معركة شرسة مع الرقابة المصرية، مذ تقديمه السيناريو عام 2010 بعنوان «لمؤاخذة»، عندما رفضته بحجة أن العمل يشجع على الفتنة الطائفية، ما اضطره إلى تعديل السيناريو وتقديمه مجدداً عام 2011 باسم «ثانية إعدادي»، لكنه فوجئ بتعنت الرقابة التي رفضته من جديد تحت زعم أن السيناريو يسيء إلى العملية التعليمية، ويشوه وزارة التربية والتعليم!

المفارقة المثيرة أن السيناريو الذي رفضته الرقابة نجح في الفوز عام 2012 بمنحة لجنة الدعم التابعة لوزارة الثقافة، البالغة مليوني جنيه، ما أثار غضب رئيس الرقابة آنذاك، وأبدى استنكاره دعم الدولة سيناريو رفضته رقابتها!

في الأحوال كافة، انتصر الإبداع على المتربصين به، وعُرض الفيلم في افتتاح مهرجان الأقصر للسينما الأوروبية والمصرية بعنوانه الأصلي. لكن تولدت لدي قناعة، عقب الانتهاء من مشاهدته، بأن المواجهة التي احتدمت بين سلامة وبين الرقابة أثرت سلباً على الفيلم الذي تدور أحداثه حول الطفل «هاني عبد الله» (الطفل أحمد داش) الذي تنقلب حياته رأساً على عقب، بعد الرحيل المفاجئ لوالده مدير البنك (المطرب هاني عادل) واضطرار والدته عازفة التشيللو في الأوبرا (كندة علوش) إلى إجباره، في محاولة لضغط النفقات، على مغادرة مدرسته الخاصة وإلحاقه بمدرسة حكومية. وبمجرد أن تطأ قدماه أرض المدرسة، ثم الفصل الدراسي، يجد نفسه مُحاطاً بمناخ يؤجج العنف والتطرف، وبيئة لا تسمح باختلاف الهوية والعقيدة، فيضطر إلى إخفاء أمر ديانته المسيحية، وينصاع إلى إرادة الجميع من حوله. لكن اكتشاف حقيقته يُخلصه من مخاوفه وسلبيته وخنوعه، ويقرر المواجهة لاستعادة هويته... وعقيدته!

فكرة على درجة كبيرة من الجدة والأهمية؛ خصوصاً أن المخرج عمرو سلامة لم يكتف برصد النتائج الوخيمة لطمس الهوية، ومحو الخصوصية، وإقصاء «الآخر»، وازدرائه إذا لزم الأمر، وإنما وضع يديه على نقطة حيوية للغاية، بإشارته إلى أن «التمييز» يمكن أن يتخذ بعداً أكثر خطورة في حال خوف المجتمع من اتهامه بالتطرف والطائفية، ما يدفعه إلى أن ينقلب على نفسه، ويُظهر غير ما يُبطن، ووقتها يُصبح أكثر تطرفاً في إظهار مشاعر الحب الزائف والتعاطف الوهمي والرغبة غير الصادقة في احتواء «الآخر»، من دون أن يدعم تلك المشاعر بأرضية حقيقية من الأفعال التي تعكس اقتناعاً بأن ما يفعله «ضرورة» وليس «اضطراراً» فرضته ظروف وإملاءات ومواءمات!

نجح سلامة أيضاً في فضح التردي الملحوظ الذي أصاب العملية التعليمية، وحوَّل المدارس إلى مرتع للعنف والتطرف، وحذر من خطورة ما ينتظر المجتمع على يد الأجيال الجديدة التي تتعرض لعملية تشويه ذهنية ليست عشوائية، ما يستوجب على الجميع مواجهة الأزمة، وليس الهروب منها، عبر خيار الهجرة تحت زعم الاضطهاد الديني، أو الاستسلام للأمر الواقع، والإذعان لشروط الطرف الآخر. لكن عاب الفيلم اضطراب السيناريو وتشويشه، ربما بسبب رغبة المخرج في تمرير فكرته وتجربته من دون أن يصطدم مع الرقابة؛ فالوصول إلى ما يريد قوله استغرق وقتاً طويلاً، وأدى إلى الوقوع في فخ التكرار والمبالغة في رصد تجاوزات الصبية في المدرسة، والشكل القميء الذي ظهر عليه بعض المدرسين. كذلك تسبب تركيز المخرج على القضية وحدها في تراجع ملحوظ في توظيف العناصر والأدوات الفنية التي يملكها، وعبر عنها في فيلمه الأول «زي النهارده» (2008)، وبدرجة ما في فيلمه الثاني «أسماء» (2011)؛ بل إن جرعة الكوميديا لم تكن بالقدر المتوقع، أو بالشكل الذي كان مأمولاً في هذه التجربة، التي انتظرها الجميع بشغف وترقب وتفاؤل بأنها ستمثل إضافة كبيرة، وهو ما تأكد في المشاهد الاستهلالية التي أشارت إلى مظاهر الحياة الرغدة والمرفهة التي كانت تعيشها عائلة الطفل، وبررت حجم الصدمة التي انتابت الأم والابن، في أعقاب التغيير الكبير الذي طرأ على واقعهما، وإصرارهما على تجاوز الأزمة، فضلاً عن الإشارة ذات المغزى إلى إحجام الأم عن ارتياد الكنيسة، والحرفية الواضحة في تصوير مشهد التلامذة في صورة وحوش ومصاصي دماء على وشك افتراس الطفل والتهامه لمجرد أنه «مختلف»، فضلاً عن تعرية الدور السلبي الذي تؤديه القنوات الفضائية المتسترة وراء الدين، والمدارس التي تغذي لدى التلامذة أمراض التطرف والعنف والتحرش، بدلاً من أن تهذب أرواحهم وتشجعهم على إعلاء لغة الحوار وتربيهم على التسامح، وهي الرسائل التي كانت بمثابة الهاجس الذي يؤرق عمرو سلامة، وسعى جاهداً إلى تجسيدها في فيلم «لمؤاخذة». لكن التجربة افتقدت البريق والسحر واتسمت ببعض التعالي، لأسباب يتحمل مسؤوليتها المخرج وحده، كونه عجز عن استثمار فكرة شديدة الواقعية والمعاصرة، وفرط في قضية كانت مؤهلة لأن تصنع فيلماً جماهيرياً بامتياز.