لغةٌ من دون عدد؟!
{البيراها} من الشعوب الأصلية ويعدون نحو 700 نسمة يعيشون على ضفاف نهر ميسي في أدغال شمال غرب البرازيل. تبدو لغتهم، التي تُدعى أيضًا البيراها، مميزة من نواحٍ عدة، حتى إن مجلة New Yorker خصتها بمقال من 12 ألف كلمة كتبه جون كولابينتو عام 2007.
كتب جون كولابينتو: «تستند لغة البيراها، التي لا ترتبط بأي لغة أخرى وترتكز على ثمانية أحرف صامتة وثلاثة أحرف مصوتة، إلى أبسط نظام صوتي عرفه الإنسان. إلا أنها تتمتع بمجموعة واسعة ومعقدة من النبرات، أطوال النبرات الصوتية وعلامات التشديد التي يضيفها المتحدث إلى الأحرف الصامتة والمصوتة، فضلاً عن المحادثات بالإشارات والهمهمات، والصفير».لكن الأبرز في لغة {البيراها} غياب الأرقام عنها شبه الكامل. وتشكّل هذه خاصية لغوية نادرة وُثقت في حالات قليلة جدًّا. لا تحتوي هذه اللغة على أي كلمات تشير إلى أحرف محددة. إلا أنها تتضمن ثلاث كلمات فقط تشير إلى مفهوم كمّي: {هوي} أي كمية صغيرة أو حجم صغير، {هويي} أي كمية أكبر أو حجم أكبر، و{باأجيسو} التي تعني مجموعة كبيرة أو يأتون دفعة واحدة.
وبما أن هذا الشعب لا يملك أي وسيلة لتحديد الأرقام، لا يسعنا إلا أن نتساءل: كيف يعدّ البيراها؟ وكيف يطلبون اثنين من شيء ما بدل واحد؟ الجواب، وفق بحث أجراه أخيرًا عالِم الألسنية الأنثروبولوجية كالب إيفيريت بشأن الأعداد ونُشرت في مجلة Cognitive Science، أنهم بكل بساطة لا يفعلون ذلك. وهذا غريب بالتأكيد.عاش إيفيريت، ابن مرسلين مسيحيين أصبحا عالمين في الألسنية، فترات متقطعة مع {البيراها} خلال طفولته. وأخبرني أن والديه كانا يتكلمان {البيراها} بطلاقة لم يجدها أي غربي آخر، علمًا أن إتقان أي غريب هذه اللغة يبدو مهمة شبه مستحيلة. قبل بضع سنوات، عاد إيفيريت (الذي تحدث مقال مجلة New Yorker بإسهاب عن والده) إلى قرى {البيراها} ليجري بعض التجارب البسيطة.اختبارات في أحد هذه الاختبارات، وضع إيفيريت على طاولة مجموعة من الأشياء تفصل بينها المسافة ذاتها، لنقل مثلاً بطاريات، وطلب من {البيراها} تشكيل مجموعة أخرى مطابقة لها. وفي اختبار ثانٍ، كان يعرض على {البيراها} مجموعة من الأشياء ثم يخفيها. ويطلب منهم مرة أخرى تشكيل مجموعة مطابقة لها. وفي كلتا الحالتين، لم يرتكب {البيراها} أي أخطاء ما دامت المجموعة لم تتخطَ القطعتين أو الثلاث. ولكن كما دوّن إيفيريت في تقريره، {انخفضت نسبة الأجوبة الصحيحة على نحو ملحوظ عندما تخطت المجموعة القطعتين أو الثلاث}. وانطبق هذا على الاختبارات كافة، حتى الاختبار غير البصري الذي ارتكز على التصفيق. في المقابل، لم يقترف الناطقون بالإنكليزية أي أخطاء البتة، إلا عندما صارت المجموعة كبيرة (سبع قطع أو أكثر) وعُرضت عليهم بسرعة ثم خُبّئت. فلا نستطيع بالنهاية العد بسرعة فائقة، إلا أن {البيراها} لا يجيدون العدّ البتة، على ما يبدو. وكيف عساهم ذلك؟ بدلاً من ذلك، يعتمدون ما يدعوه إيفيريت {إستراتيجية تقدير تناظرية} تنجح إن كانت القطع قليلة، بيد أنها سرعان ما تخفق مع ارتفاع عددها.تقديراتإن كانت الحاجة أم الاختراع، فربما لم يحتج {البيراها} إلى الأرقام، إما لأن الإحصاء الدقيق لا قيمة له في ثقافتهم أو لأن هذه القيمة تقتصر على تقديرات غير عددية. فلا يبدو أن أي وجه من أوجه حياة {البيراها} يتطلب، وفق إيفيريت، إدراك كمية تفوق الثلاثة. وهذا واقع يدركه الغرباء الذين يحاولون أحيانًا استغلالهم خلال مقايضة السلع معهم. لم تلقَ الجهود التي بُذلت على مر السنين لتعليم {البيراها} الأرقام وأسس علم الحساب النجاح. ويعود ذلك في جزء كبير منه إلى عدم اهتمامهم بهذه المسائل. واللافت أن {البيراها} يملكون مصطلحًا يطلقونه على اللغات كافة غير لغتهم، ومعناه {الرأس المختل}. وهذه بالتأكيد {نظرة سلبية} إلى لغاتنا، كما يشير كولابينتو:في ثقافتنا التي تزداد ارتكازًا على البيانات، والتي نصور فيها أنفسنا من خلال الأرقام والعمليات الحسابية، يبدو غياب الأرقام مستحيلاً. يخشى كثيرون وسط ثورة {الإحصاءات المتقدمة} في كل أوجه الحياة، أن هوية الإنسان ومشاعره قد تبدلت جذريًّا وللأسوأ للأسف. وفيما ننهمك بتخطيط نبض قلبنا وقياس استهلاكنا الوحدات الحرارية وزيادة أرباحنا إلى قيمة استبدال اللاعبين في لعبة كرة قدم على الانترنت، من المفرح أن نعلم أن {البيراها} المحصنين ضد قسوة الأرقام وطغيانها يستمتعون بحياتهم.