أما بعد...
قلما ينظر أحدنا إلى وجه الحقيقة الآخر وهو بصدد استقراء قضية ذات جذور نفسية وتاريخية ضاربة في العمق، مثل الموقف من اليهود. ولعل وطأة هذا الإرث المثقل بالكراهية والعداء كان ولايزال وراء تقلص مجال الرؤية إلى أدنى حدوده، واقتصارها على الاستحضار الدائم لمأساة الحق الفلسطيني والخطأ التاريخي الفادح للمشروع الصهيوني.في ظل هذا الواقع السياسي المتأسس في الوجدان العربي منذ ما ينوف عن ستة عقود، تضيع الكثير من التفاصيل الصغيرة واللمحات الإنسانية حول واقع اليهود الحقيقي كبشر، لهم امتدادهم القومي والعرقي في البلاد العربية من اليمن حتى المغرب. إذ قلما يلتفت أحد إلى طبيعة المعاناة الإنسانية والضغوط المجحفة التي تعرض لها اليهود العرب على وجه الخصوص، لدفعهم إلى ترك أوطانهم ومسقط رأسهم، والاتجاه إلى مجهول قيل لهم إنه أرض الميعاد.
في مقاربة مغايرة وجريئة، يكتب وليد الرجيب روايته (أما بعد...) عن هذا الواقع المسكوت عنه، محاولاً الخروج من إرث الكراهية لليهود، والنظر إلى الصورة بحياد مغلّباً الجانب الإنساني على المأثور التاريخي والسياسي. وهو في هذه المقاربة الفنية يختار يهود الكويت نموذجاً، متكئاً على مرجعية وثائقية أعانته على تقريب الصورة ومزجها بالكثير من التعاطف والفهم. يقول في التقديم لروايته: "فكرة الرواية مأخوذة عن قصة حقيقية، بينما الشخوص والأحداث في الرواية هي من صنع الخيال". أما الجانب الحقيقي في القصة فهو وجود عدد من العائلات اليهودية في الكويت منذ عام 1889، ووجود ما يسمى بحي اليهود وسوق اليهود ومقبرة اليهود، واشتغال هؤلاء بالتجارة وبيع الأقمشة، كما أن الحرية الدينية كانت مكفولة، وكان لهم كنيس يمارسون فيه طقوسهم. وقد ظلوا يعيشون على هذا المنوال متأقلمين مع واقعهم الاجتماعي إلى بداية احتلال فلسطين، وذيوع أخبار المجازر وتداعيات المشروع الصهيوني، وما تلاه من موقف العداء لليهود والصهاينة في البلاد العربية ومنها الكويت. الأمر الذي عجّل باضطراب أحوال اليهود وتنامي الكراهية والعداء تجاههم، ودفعهم قسراً إلى الهجرة.أما الجانب (الذي هو من صنع الخيال) فهو ذلك الاشتغال على التفاصيل، ووضع شخصية يعقوب داود عزرا في بؤرة الحدث، وتركه يسترسل في سرد سيرة حياته المضطربة، بعد أن نيّف على السادسة والثمانين من العمر. وطوال رحلة السرد كانت خيوط التعاطف تنمو بتؤدة حول عزرا ووضعه الإنساني الدقيق، منذ أن كان صبياً في العاشرة من العمر وصداقته الحميمة للكويتي المسلم (موسى)، وتشربه لمرابع الصبا والحنين والكتابات الأولى، مروراً بقصة حبه البريء لسارة ساسون، ثم اقتلاعه المؤلم من هذه الاعتيادية الأليفة نحو الشتات. وانتهاءً بانخراطه في الحزب الشيوعي في العراق أولاً، ثم حزب راكاح في إسرائيل، وكراهيته للعنف والحروب وفوضى السياسة والتمييز، وكل ما جره المشروع الصهيوني من أحقاد وتدمير للنفس البشرية.ولدعم الجانب الفني / الإنساني في الرواية يأتي الحب كثيمة أصيلة في بناء الرواية. وقد جعل المؤلف من الحب - في تفتحه الأول على المباهج القلبية النادرة – خيطاً متيناً يربط بين أحداث الرواية من المشهد الأول حتى الأخير. ولم تكن سارة /الطفلة التي جمّدها الزمن في صورة يتيمة كالحة، غير رمز أصيل يربط عزرا بالجذور والطفولة والنقاء، قبل الولوغ في أوحال المنافي وتبعات السياسة وجناياتها. أما بحثه العبثي عن سارة ساسون طوال سنواته العجاف، فلم يكن غير بحث عن تلك المعاني المفقودة التي بدت في نهايات عمره مجرد أطياف وأحلام غاربة.ورغم غنى القضية التي يطرحها المؤلف في رواية (أما بعد...)، إلا أنه - كما يبدو للقارئ - لم يولِ لغته العناية اللازمة واللائقة... فقد اقتصرت لغة الرواية على الوصف الخارجي ولغة الجسد، وعلى تحركات الشخوص وتنقلاتهم وحواراتهم المقتضبة والمباشرة. كما غلب على السرد التسرّع والاختزال والصياغة المتعجلة. وكان بالإمكان الاشتغال بتأن على لغة أكثر كثافة، خاصة أن الحكاية عبارة عن غوص في أعماق إنسان، وتسجيل لرؤى موغلة في البعد الزمني ومشوبة بالحلم والتذكر ونشاط المخيّلة. والحالات الوجدانية هذه عادة ما تكون أخصب من الواقع عند استرجاعها، وأكثر إيغالاً في الشعر والغموض.