رشدي أباظة... الرجل الأول: طـريق الأمل (2)

نشر في 30-06-2014 | 00:02
آخر تحديث 30-06-2014 | 00:02
لم تكن العائلة الأباظية مجرد أسرة كبيرة تضم عدداً من الرجال أصحاب النفوذ والجاه، بل عائلة تضرب بجذورها في معظم قرى وعزب محافظة الشرقية، تلك المحافظة التي تأخذ موقعاً فريداً بين محافظات شرق الدلتا، فهي بمثابة الفارس الذي يحرس مدخل مصر الشرقي، وبحكم موقعها، تجابه الصدمة الأولى في كل غزوة جاءت على مصر من الشرق لموقعها الفريد هذا، ما جعل أبناء المحافظة يتسمون بالشجاعة والفروسية، وربما استمدوا سماتهم من موقع محافظتهم، «فرسان شرقيون». بل اتخذوا من يوم التاسع من سبتمبر من كل عام، عيداً قومياً لهم، إحياء لذكرى وقفة ابنهم الزعيم الشرقاوي أحمد عرابي ضد الخديو توفيق في ميدان عابدين في القاهرة، عارضاً مطالب الأمة عام 1881، حيث تفجرت «الثورة العرابية» ثورة الشعب المصري ضد الخديوي، عندما وقف الزعيم أحمد عرابي شاهراً سيفه على جواده، وخلفه مجموعة من الضباط أبناء مصر الأحرار الأوفياء، يعرض مطالب الشعب في مواجهة الخديوي والقنصل البريطاني «كوكس» قائلا جملته الشهيرة:
«لقد خلقنا الله أحراراً ولم يخلقنا تراثاً أو عقاراً فو الله الذي لا إله إلا  هو، إننا سوف
ساهم ذلك في تكوين شخصية أبناء عائلة «الأباظية» كغيرهم من أبناء هذه المحافظة، غير أنهم زادوا عليهم بذلك «العرق الشركسي» الذي اكتسبوه من «أباظيا» الأم الكبرى، فانتقل بالوراثة إليهم.

ورثت العائلة الكثير من سمات الجدين (عايد وأباظيا)، فكما ورثوا من عايد «الشهامة والرجولة، والكرم وأخلاق الفرسان»، والأهم حب النساء وتعدد الزوجات، ورثوا أيضاً من الجدة «أباظيا» العناد والكبرياء والاعتداد بالنفس، والتمسك بعادات العائلة وتقاليدها، فبدا وكأن ثمة اتفاقاً غير معلن مع القدر، أن يرث الرجال صفات الجد، وأن ترث النساء صفات الجدة، وهو ما وضح في شخصية السيدة زينب أباظة من قوة الشخصية، وغلظة القلب، والكبرياء، والعناد.

حرصت السيدة زينب أن تغرس في ابنها سعيد بغدادي أباظة هذه الصفات، وتدربه منذ نعومة أظفاره على أن يكون جديراً بحمل اسم العائلة التي ينتميان إليها، وما تضمه من أسماء لها تاريخ في عالم السياسة والاقتصاد والفكر والثقافة، فأصرت على أن يلتحق بمدرسة «البوليس» كعادة أبناء الأسر الكبيرة، يسلكون أحد طرق ثلاثة في الدراسة (الحربية، الشرطة، الحقوق) ليصلوا عبرها في النهاية إلى الحصول على لقب «باشا»:

* أنت بتقول إيه يا ولد؟ عايز تكسر كلامي.

ـ لا يا نينة. لا سمح الله. بس حضرتك عارفة أن حياة العسكرية صعبة وكلها التزامات وأوامر. وأنا كان نفسي أدخل «مدرسة الزراعة» علشان أكون «مهندس ري» زي عباس أفندي مهندس الري.

* عباس... وأفندي! أنت لازم تبقى باشا زي جدك الله يرحمه. فاهم! بكرة لما تكبر وتبقى حكمدار... أكيد هاتاخد الباشوية. أوعى تنسى أنت من عيلة مين!

ـ يا نينة أنا لسه ما دخلتش مدرسة البوليس وعملتيني حكمدار وكمان باشا.  

* أيوا... أنت لازم تبقى باشا.

ضابط مباحث

كان الشأن السياسي المصري مشتعلا في العام 1918، في ظل الاحتلال البريطاني، الشوارع تغلي، وحبلى بالثورة، فقد قرر سعد زغلول وبعض رفاقه، تأليف «وفد مصري» للدفاع عن القضية المصرية، ضد الاحتلال الإنكليزي، والمطالبة بتنفيذ الوعد البريطاني بمنح مصر استقلالها، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى نهاية عام 1917.

تشكل «الوفد المصري» من سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي، وآخرين، جمعوا توقيعات من الشعب المصري، بقصد إثبات صفتهم التمثيلية، فكان من جراء ذلك أن اعتقل سعد زغلول ورفاقه، ونفي إلى جزيرة في البحر المتوسط في 8 مارس 1919، فانفجرت الثورة في شوارع مصر، واضطرت إنكلترا إلى عزل الحاكم البريطاني والإفراج عن سعد زغلول وزملائه، وإعادتهم من المنفى، والسماح لهم بالسفر إلى مؤتمر الصلح في باريس لعرض قضية استقلال مصر.

لم يستجب أعضاء مؤتمر الصلح في باريس لمطالب الوفد المصري، فعاد المصريون إلى الثورة وازدادت حماستهم، وقاطع الشعب البضائع الإنكليزية، فألقى الإنكليز القبض على سعد زغلول مجدداً، غير أنهم نفوه هذه المرة إلى جزيرة {سيشل} في المحيط الهندي، فازدادت الثورة اشتعالا، وحاولت إنكلترا القضاء على الثورة بالقوة، غير أنها فشلت.

في هذا الوقت كان الشاب سعيد بغدادي أباظة، يستعد لحفلة تخرجه في {مدرسة البوليس}، غير أنه وقف يراقب المشهد حزيناً، ينظر إلى حالة الغليان التي يعيشها الشعب المصري، من دون أن يستطيع أن يشارك ولو {بالهتاف} ضد المحتل، فقد كان {محرما} على رجال البوليس أو الجيش، المشاركة في أي فعاليات حماسية أو تظاهرات، حتى لو كانت ضد المستعمر.

تخرج سعيد في مدرسة البوليس، برتبة {ملازم}، وما إن انتهت حفلة التخرج في المدرسة، حتى اتجه من فوره إلى بلدته بالشرقية، حيث كانت حفلة أخرى في انتظاره، أقامتها العائلة ابتهاجا بنجلها سعيد أفندي بغدادي الذي تلقى {نجمتين} من الذهب الخالص، هدية تخرجه من والدته السيدة زينب.

عُيِّن سعيد كضابط مباحث في مركز المنصورة، الذي لا يبعد أكثر من ‏ثلاثين كيلومتراً عن عزبة {الأباظية}...‏ غير أنه لم يرد أن يبتعد عن الشرقية ويترك الأسرة، فطلب من والدته السيدة زينب، أن تتحدث إلى أحد باشاوات العائلة ليسعى إلى إبقائه في الشرقية، غير أنها فاجأته:

* الكلام اللي أنت بتقوله دا مش هايحصل أبداً.

ـ أنت يا نينة اللي بتقولي كدا؟ أنا كنت فاكرك هاتعملي المستحيل علشان أفضل هنا جنبك في البلد.

* تفضل جنبي تعمل إيه؟ ظابط البوليس مالوش بلد... والظابط الشاطر يثبت كفاءته في أي مكان يروحه علشان يترقى بسرعة.

ـ أيوا يا نينة بس أنت عارفة مرتبي أد إيه؟ ستة جنيه ونص. هأعمل بيهم إيه وأعيش بيهم إزاي في بلد غريب؟

* مركز المنصورة اللي هو فركة كعب من هنا... بلد غريب. عموماً، أنت هايوصلك خمستاشر جنيه كل شهر... ودا مبلغ مش يعيشك... دا يعيش عيلة من عشر أنفار.

   لم يتأخر سعيد أباظة في تنفيذ أمر التعيين والانصياع إلى رأي والدته، فانتقل فوراً إلى المنصورة، تلك المدينة القابعة على الضفة الشرقية لنهر النيل فرع دمياط، فمن الأمور الثابتة المسلم بها، أن نهر النيل في مصر ينحدر من الجنوب في اتجاه الشمال، غير أنه يأتي إلى المنصورة ويغير اتجاهه، حيث نجد أن هذه هي المنطقة الوحيدة في مصر التي يسير فيها نهر النيل من الشمال إلى الجنوب، ما يقرب من أربعة كيلومترات، ثم يعود بعدها ليواصل رحلته إلى الشمال، كأنما يطوق هذه المنطقة بإحدى ذراعيه، خصوصاً أن هذه المنطقة تعد الأكثر اتساعاً من النهر، لذا أطلق عليه الأهالي «بحر النيل». وربما كانت الأسباب نفسها هي التي جعلت الملك الكامل محمد، أحد ملوك الدولة الأيوبية، يختارها عام 1219، لتكون في مواجهة العدو، عندما حاصر «الفرنجة» مدينة دمياط، فنزل في هذه البقعة وخيم بها وبنى قصراً، وأمر من معه من الأمراء والعساكر بالبناء، فبنيت الدور ونصبت الأسواق، وأدار عليها سوراً مما يلي البحر، وستره بالآلات الحربية، وأطلق عليها اسم «جزيرة الورد» لأنها محاطة بالمياه من ثلاث جهات، وفيها أكبر حدائق ورد في بر مصر كله، ثم أطلق عليها اسم «المنصورة» بعد الانتصار الذي تحقق على الحملة الصليبية الفرنسية بقيادة لويس التاسع، تفاؤلا بالنصر.

وقع الجميع في غرام المدينة الهادئة الساحرة، تماماً مثلما وقع سعيد أباظة في غرامها، وتبدل موقفه منها، فأصبح هو من يسعى إلى البقاء فيها، خصوصاً بعدما وجد فيها أرضاً خصبة لرومانسيته، الحدائق الممتلئة بالزهور تحيط به أينما ذهب، وأمامه صفحة النيل بلونها الفضي الساحر، ولم ينس القدر أن يسوق إليه الضلع الثالث من مثلث الرومانسية «الوجه الحسن»، ولحسن طالعه لم يكن وجهاً واحداً، بل امتلأت المدينة بالوجوه الحسان.

وسط هذه الأجواء‏،‏ أمضى الشاب سعيد أباظة سنوات خدمته الأولى كضابط مباحث في مركز المنصورة، استطاع خلالها أن يكوِّن كثيراً من الصداقات، ليس مع أبناء المجتمع المخملي فحسب، من أبناء الباشاوات والإقطاعيين وأصحاب العزب، لكن أيضاً مع مجتمع العمال والمصانع.   

عاش سعيد أباظة سنواته الأولى في مركز المنصورة، ضابطاً منضبطاً، يؤدي واجبه بكل حماسة، غير أن حماسة الشباب كانت تذكره دائماً بأنه الفتى الأباظي، الرومانسي المحب للنساء، فكان لا بد من تقديم نفسه لفتيات المدينة كفارس أباظي، يمتطي صهوة جواده، يجوب المركز ذهاباً وإياباً، يتلقى نظرات الإعجاب والابتسامات، خصوصاً من تلك الفتيات من أبناء الجالية الإيطالية. حتى إن بعضهن كن يجلسن في الشرفات وخلف «المشربيات» ينتظرن ظهوره في مواعيد الجولات التفتيشية اليومية، حتى وصل الأمر إلى طقس يومي عند بعضهن، حيث يلتقين في بيت إحداهن، ويجلسن في انتظار أن يطل عليهن «الفارس الأباظي» في التاسعة من صباح السبت من كل أسبوع، عندما كانت تخرج «التشريفة» في مشهد مهيب، عبارة عن تشكيلات عسكرية من فرقة الموسيقى العسكرية وخلفها سلاح الخيالة، ثم رجال المطافئ، يتقدمهم «حكمدار المدينة». كانوا يجوبون شارع البحر على «كورنيش المنصورة» وتعزف الموسيقى العسكرية، ويقدم رجال الخيالة الاستعراضات العسكرية، فيما يقف الأهالي يشاهدون هذه الاستعراضات ويصفقون لهم. وما إن ينتهي الاستعراض، حتى تعود التشكيلات العسكرية إلى ثكناتها، فيما تنتقل الموسيقى العسكرية إلى «حديقة شجرة الدر» على أطراف المدينة، ليستمر عزفهم للموسيقى إلى فترة الظهيرة.

شرفات وجميلات

كان سعيد أباظة يدرك تماماً قدر اهتمام بعض فتيات المدينة بحيويته وشبابه وفتوته، ويتعمد ألا يلقي لهن بالا، يرمقهن من دون أن يلاحظن ذلك، وكان عندما لا يلاحظ وجود العدد المعتاد من الشرفات المفتوحة في انتظاره، يذهب ثم يعود حتى يطمئن إلى أنهن موجودات. غير أنهن لم يشغلن باله إلا خلال هذه اللحظات. لم يفكر أن يرتبط بإحداهن أو يدخل في علاقة مع واحدة منهن، واثقا أن ارتباطه سيكون بواحدة من «العائلة الأباظية» كما هو التقليد المتبع في العائلة التي كانت تعاني من نقص في عدد الذكور، وزيادة في عدد الإناث، لذا كان هناك فرمان أباظي غير مكتوب، بألا يتزوج أحد من شباب العائلة بفتاة من خارجها.

كانت هذه قناعة سعيد أباظة، حتى عصر ذلك اليوم فحسب، عندما استدار بجواده عائداً إلى المأمورية، في أحد أيام السبت، حين كاد أن يصيب واحدة من تلك الفتيات، التي تراجعت إلى الخلف وقد أصابتها حالة من الذعر، غير أن سعيد وقف بجواده كأنه تمثال وضع في الميدان، تجمدت أوصاله، ارتجف قلبه خفق بسرعة، ليس خوفاً على الفتاة، فلم تصب بسوء، لكن لأن عينيه التقيتا بعينيها، فوجد نفسه أمام جمال من نوع خاص، انتقل به من الواقع الذي يقف على أرضه، إلى عالم السحر والأساطير، كأنه اصطدم بأميرة خرجت لتوها من حكايات «ألف ليلة وليلة»، ألقت عليه بسحرها.

تركته الفتاة وانصرفت، غير أنها قبل أن تنصرف أخذت معها قلبه وعقله. لم يصدق سعيد أباظة ما حدث له. لم يتوقع أن تحتوي هذه المدينة من تستطيع أن تسرق قلبه بهذه السهولة، حتى من دون أن تنطق بكلمة، ألقت بنظرتها وانصرفت.

لم ينم سعيد ليلته، ظل يفكر فيها، لم تفارق صورتها مخيلته، وعشرات الأسئلة تتداعى على رأسه: من تكون هذه الفتاة؟ وهل هي مصرية أم ابنة إحدى الجاليات الموجودة في المنصورة؟ هل يمكن أن تكون في زيارة عابرة للمدينة، أم أنها تعيش هنا؟ هل هي متزوجة أم لا؟ أين تسكن؟ من والداها؟ هل لها صداقات؟ وغيرها أسئلة كثيرة لم يجد لها إجابة واحدة، بل الإجابات كافة جاءت تحمل معنيين، بين نعم ولا. غير أن أكثر ما راح يلوم سعيد نفسه عليه، هو أنه تركها من دون أن يعرف منها ولو إجابة واحدة لأي من هذه الأسئلة.

(البقية في الحلقة المقبلة)

المنصورة

لما استولى العثمانيون على حكم مصر، أصدر سليمان الخادم والي مصر أمراً عام 1527 بنقل ديوان الحكم إلى مدينة المنصورة، لتصبح عاصمة إقليم الدقهلية، وفي العام 1871 أنشئ أول قسم شرطة في المنصورة، وجعلت قاعدة له، ثم سمي «مركز المنصورة» منذ العام 1881، لاتساع دائرة المنصورة وكثرة أعمال الإدارة والضبط فيها، فأصدرت نظارة الداخلية (وزارة الداخلية اليوم) عام 1890 قراراً بإنشاء «مأمورية المنصورة»، تلك المأمورية التي جاء تعيين سعيد بغدادي أباظة ضابطاً فيها.

كان كل ما اصطحبه سعيد إلى المنصورة حقيبة ملابسه، وبعض الكتب والروايات الرومانسية، يستعين بها على انقضاء الليالي الطويلة التي سيمضيها بعيداً عن الأهل والأصدقاء، فرغم أنه ضابط شرطة من طباعه الحزم والضبط والربط، فإنه كان رومانسياً بطبعه، محباً للنساء، وبالطبع محباً للحياة، ككل الأباظية. فما أكثر الأدباء والمفكرين والمثقفين في العائلة، فكان من الصعب على الضابط الشاب أن ينفصل عن إرث آبائه وأجداده.

كانت الجاليات الأجنبية التي ملأت مصر آنذاك تمتزج بالشارع وتعيش حياتها بحرية تامة‏، ما بين يونانيين وإيطاليين فضلا عن الفرنسيين، المنتشرين في المدن المصرية، وتحديداً المدن الساحلية.

رغم توافد الجاليات الأجنبية على مصر في عصور وحقب زمنية مختلفة، ومن جنسيات مختلفة، فإن الجاليات اليونانية والإيطالية والأرمينية، ظلت لها رائحة خاصة في التاريخ المصري، فلا تزال ظلال هذه الرائحة تتناثر في شوارع وأزقة ومحال ومقاهي مدينتي الإسكندرية والمنصورة، في الوقت الذي احتفظت فيه الجاليتان اليونانية والإيطالية، بحضور خاص في العاصمة القاهرة.

تعتمد التركيبة السكانية في المنصورة على الطبقة الوسطى في الغالبية، حيث إن معظم سكانها من {الموظفين} وكان كثر منهم في بداية الأمر من الوافدين عليها، ثم ما لبثوا أن أصبحوا من أهلها، ذابوا فيها لأنها مدينة مرحبة بالغريب من خارج أهلها، مثلما حدث تماماً في الإسكندرية، فربما لا يعرف كثيرون أن كلمة {أيووه} السَكندرية هي في الأصل مأخوذة مِن كلمة {أيوتا} الإيطالية، تلك التي تعبر عن الدهشة... قد يبدو المِثال بسيطاً، لكنه يوضح كيف تغلغل الإيطاليون منذ زمنٍ قديم في وِجدان الشعب المَصري وتاريخه، وكيف ذابوا في الحياة المصرية، لدرجة أنهم اعتبروا أنفسهم مصريين قبل أن يكونوا إيطاليين، منذ أن جاؤوا مصر مع نهاية القرن التاسع عشر، حيث سبقهم اليونانيون واشتهروا بالعمل في تجارة المواد الغذائية والبن ومختلف المهن والحرف اليدوية، غير أن الإيطاليين اختاروا مجالي الصِناعة والعمارة، فيما عمل الأرمن بتجارة الذهب.

أحب الإيطاليون مِصر وتغلغلت في نفوسهم، فالطبيعة المِصرية منذ قديم الأزل، فتحت أذرعها لأي وافد إليها، لهذا ليس مِن الغريب أن رفض كثير منهم العودة إلى إيطاليا وفضل البقاء في مِصر. غير أن المنصورة، لجمال موقعها وطبيعتها الساحرة، كانت ملاذاً لعدد كبير من العائلات الإيطالية التي جاءت إليها للعمل في التجارة‏ والعمارة، ‏فقد كانت الجاليات الأجنبية في المنصورة موزعة بين حيين، الأول {حي المختلط} الذي يضم {المحكمة المختلطة} التي تتناول قضايا الأجانب في مصر، ويعيش فيه بعض الأجانب. أما الحي الثاني فكان {توريل} وهو الحي الذي خصص لسكن الطبقة الأرستقراطية وأصحاب المهن العليا، من مصريين وأجانب، من مفتشي ري وكبار رجال الشرطة، ومديري المصالح الحكومية من بنوك وكهرباء وتلفونات وغيرها. والأهم من ذلك كان يسكنه معظم الجاليات الأجنبية من يونانيين وإيطاليين وأرمن، لذا كان ينتشر فيه الكثير من الفلل والقصور. كذلك يضم مدارس أبناء الطبقة الراقية مثل {الليسيه} و}القلب المقدس} و}اليونانية} و}الأرمينية}، فضلاً عن حديقة {توريل}.     

ويفصل هذا الحي عن بقية أحياء مدينة المنصورة، ذلك الجزء الصغير من النيل الذي يسير من الغرب إلى الشرق، وهو الذي أطلق عليه الأهالي {البحر الصغير} وتصل بينه وبين بقية أحياء المدينة {قنطرة} أقرب إلى {الكوبري الصغير}.

هنا في هذا الحي، اختلط الجمال الإيطالي بالسحر المصري، مكونين جالية كبيرة، تميز منهم كل من إيولاندا باتيجيلي، سيلفيو بيتشي، جرازيلا كاليري، فرانسيسكو موناكو، سفالدور لاتيرزا، فرانكو جريسو، لويجي بيرجامين، ومارتا بتريشيولي... كانوا يعملون بين تجارة القطن وصناعات مختلفة، إضافة إلى رسامين ومعماريين، فضلاً عن لويجي بورجو نجينو الذي كان يعيش مع زوجته وابنته الوحيدة {تريزا} والذي ذاعت شهرته، ليس بين أبناء الجالية الإيطالية فحسب، بل بين أهالي المنصورة كلهم، بحكم عمله كمفتش في مصلحة تلفونات المنصورة.

back to top