لن أعلق على السجال الدائر خليجيا حول جائزة البوكر وخروج الرواية الخليجية منها رغم إسناد رئاسة لجنة التحكيم إلى أحد أساتذة النقد الأكاديمي، وهو رجل صاحب دور مهم في النهوض بالفكر العربي، ولا أقول الخليجي والمساهمة في انشاء الجسر الأهم بين الثقافة الغربية والعربية. وسأتفق معه في ما قاله إن الاهتمام كان منصبا في البحث عن سرد حديث بعيدا عن الكلاسيكية السردية التي تمكنت من الرواية العربية لفترات طويلة. سيكون ماقاله الدكتور سعد البازعي محل تقدير واحترام اذا ما نجحت هذه الروايات فعلا بخلق نقلة نوعية في السرد الروائي العربي. رغم أن مجموعة من دارسي الرواية العربية يشكون في ذلك. وسأترك الحكم الشخصي بعد الاطلاع على الروايات الست ومدى مواكبتها، لذلك التطور ان وجد.

Ad

موضوع المقال حول استغراب البعض من وجود سائق تاكسي في لجنة تحكيم البوكر في النسخة الأصلية. يبدو للقارئ العربي أن اختيار سائق التاكسي لتحكيم جائزة وكأنه مبرر لنختار شخصيات مشابهة عربيا في لجنة التحكيم للرواية العربية. أما الواقع الغربي فهو مختلف تماما عن الصورة الذهنية لهذا السائق. وظيفة سائق التاكسي أو غيره من المهن الخدمية البسيطة ليست أعمالا منوطة بالفقراء وعديمي الثقافة أو العمالة الوافدة بل أعمال يلجأ اليها كبار الكتاب والدارسون إما لانعدام فرصة وظيفة أو كسبيل للكسب من أجل تحقيق درجة علمية كالماجستير والدكتوراه.

و.ب. كنسيلا أحد أهم الروائيين والقصاصين في كندا. ولد في بيئة فقيرة في ألبرتا والتحق في سن العاشرة بورشة منزلية لتعلم حرفة يعيش منها، تولت والدته تعليمه القراءة والكتابة وبعض مبادئ الحساب ولم يلتحق بالتعليم حتى كان أقرانه في السنة السادسة من تعليمهم. أنهى الثانوية العامة في سن متقدمة ويقول كل ماتعلمته من الأدب الحقيقي في دراستي هو مسرحية واحدة لشكسبير. ترك الدراسة ليعمل وكانت الفرصة الوحيدة أمامه سائق تاكسي، كان يمضي أيامه مصاحبا للكتاب وينهى ليلته والكتاب الى جانبه.

أصدر مجموعته القصصية المهمة في سن الثانية والأربعين قبل أن ينهي دراسته الجامعية، وهي احدى أهم المراجع الأدبية التى تدرس في الجامعات الكندية للتعرف على حياة السكان الأصليين "الهنود الحمر" وتم تدريس مجموعته أكاديميا قبل أن يكون هو نفسه أكاديميا.

كان دائما يذكر نقاده أنه سائق تاكسي أولا ثم أديبا. كنت أنقل الناس واسمع نبض حياتهم، أعيش معهم قصصهم وأتخيل قصصا لم يكملوها، يقول دون أن تتأثر مكانته القصصية. تم تحويل قصته الأهم (راقصني في الخارج) لفيلم عام 1994 من اخراج بروس ماكدونالد.

تغيرت حياة كنسيلا في ما بعد ونال شهادة الدكتوراه في سن متقدمة، فلم يلتحق بالجامعة الا في سن الثلاثين وخلال دراسته حتى شهادته الأكبر بقي عاملا في التاكسي ومحلات البيتزا التي شكلت عالمه القصصي وأنضجت خياله القصصي. وحكاية كنسيلا أراها كل يوم وأنا أشاهد دكاترة عربا وأجانب يعملون في مهن خدمية بسيطة ينتظرون فرصة حقيقية قد لا تستمر طويلا ويعودون بعدها الى أعمال بسيطة. أحد هؤلاء العرب لديه ست براءات اختراع انتهى المشروع الذي كان يعمل فيه ليعود عاملا بسيطا كبقية العمال.