ترتبط حرارة صيف الكويت بحركة الطيران والسفر ارتباطا وثيقا، فمع اشتداد درجة الحرارة وارتفاع مقياسها، يرتفع عدد المسافرين المغادرين لها، وأنا واحدة من هؤلاء الذين لا يطيقون الصيف بشكل عام، وصيف الكويت بشكل خاص، وعادة ما أكون أول المغادرين وآخر العائدين اليها، ويعود ذلك لعدم ارتباطي بأي وظيفة أو عمل أو لأجل العودة إلى المدارس، فمع انتهاء دراسة الأبناء انتفى آخر شروط الالتزام بالتواجد مع حلول العام الدراسي الجديد، وبت أقسم الإقامة في الكويت تبعا لشهور السنة التي يتحسن فيها الجو وتنخفض درجة حرارته، فمع نهاية شهر سبتمبر وبداية موسم الخريف تبدأ الحياة تضخ حركة نشاطها في الكويت مع بواكير تحسن الطقس وعودة الناس من الهجرة الصيفية، لتدور حينئذٍ عجلة جميع الأنشطة فيها.

Ad

وأول شيء أتفحصه عادة عند أول خطوة لي خارج المطار هو قياس درجة الحرارة التي تصفعني حالما أخرج من مواقف السيارات، وهو التقييم الذي استشعر به ما تبقى لي من حرارة الصيف العابر، ويلي هذا تقييم آخر يبين لي مقدار حرارته التي ولت معه وما خلفته من حرارتها وحريقها الذي يأكل الأخضر من الأشجار والنباتات المختلفة ويترك خلفه يباسها وجفافها الأكلح الذي يخالف الصورة التي تركته عليها حين سافرت عنها، ومن درجة اليباس أدرك كم كانت درجة حرارة هذا الصيف ومدى قسوته.

والأمر نفسه أقيس به درجة التغيرات التي جرت على نباتات حديقة منزلي، فمن أول خطوة لي فيها أقوم بفحص أشجارها ونباتاتها دون أن أقيم أي اعتبار أو احتساب لتعب السفر أو وقت وصولي سواء كان في منتصف الليل أو عند الفجر وحتى قبل السلام على من في منزلي، فأول شيء أقوم به هو فحص حالة الحديقة الخارجية والداخلية وتقييم وضعها ومن ثمة أسلم على أهل بيتي.

وفي الأيام التالية أبدأ رحلة السؤال والتعرف على الجديد الذي آتى خلال غيابي، وعادة ما يكون هناك جديد في انتظاري، وهو أجمل ما في دولنا الخليجية أنها دائمة متجددة وتفاجئنا بمتغيرات سريعة كلما طال غيابنا عنها، حتى وإن كان هذا الغياب لا يتجاوز العطلة الصيفية، فنحن في بلدان نامية تعشق دائما الجديد وتهرول خلف كل ما له بريق لامع.

وفي هذا الصيف الذي غبت عنه اكتشفت عند عودتي كمية المطاعم والمقاهي التي تحمل علامات تجارية لماركات عالمية مثل فرساشي وكفالي وأرماني وجوزف وميسوني، وغيرها الكثير من المطاعم والمقاهي بكل جنسياتها وتنوعات أكلها، وهذه كلها افتتحت أبوابها فقط خلال فترة غيابي التي لم تتجاوز الـ6 شهور، فكيف لو غبت عنها عدة أعوام مثلا، أظن حينها أنني لن أستطيع التعرف حتى على طريق العودة إلى منزلي من شدة التغيرات التي تجتاح الطرقات والمباني وكثرة المشروعات سواء كانت حكومية أو أهلية، كلها سائرة في سباق التغيير المستمر الذي يجتاح دولنا الخليجية، ويزيد من سباق شهوة اللحاق بالمثير والجديد الاستهلاكي الذي يهرول التجار صوب منبعه ليحصد كل منهم النصيب الأكبر من الأرباح الآتية من جيوب المستهلكين الذين لا يعرفون إلا صرف كل ما في الجيب وترك المستقبل للغيب.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو طالما توجد في الكويت كل هذه التغيرات المستمرة لهذه المباهج المتعددة المتدفقة بكل ألوانها الاستهلاكية، لماذا لا يستقر الكويتيون في بلادهم خلال الإجازات التي تجعلهم يهرولون صوب المطارات باتجاهات بوصلات العالم المختلفة عند الحصول على أي عطلة مهما صغرت أيامها حتى وأن لم تتعد أجازة الويكند أي نهاية الأسبوع ؟

الجواب له عدة أسباب لعل أهمها هو التخلص من الواجبات أو ما نسميه في الكويت المواجب، أي تلك التي لها علاقة بالارتباطات الاجتماعية ومجاملاتها التي لا تنتهي حتى تعاود البدء من جديد، وتجعل الفرد يعيش ليقوم بواجبها أكثر مما يؤديه لنفسه.

السفر يمنح الحرية المستلبة في مجتمعاتنا ويخلص المرء من جميع المسؤوليات الاجتماعية، مما يسهل ويحرر المرء من قيوده ويجعله يعيش ببساطة متناهية كيفما يحب ويشتهي بدون أي حسابات أو تخطيط أو لأي نوع من أنواع الالتزامات المفروضة.