رواية «اوبابا كوآك» للكاتب برناردو أتشاغا من الروايات المذهلة المتعبة، التي تُدهش القارئ من بدايتها إلى آخر سطر فيها، إذ تتشابك خطوطها ضمن تقنيات تتطلب الانتباه الكامل من القارئ، وإلا لن يفهم أي شيء منها، فهي ذات حكايات متعددة، متراكبة ومتداخلة بشخصياتها التي لا يرتبط بعضها مع بعض ولا تتقاطع مع واقعها المعيش في زمنها وأحداثها، وهي تتنوع في ألعاب فكرية إبداعية ملغزة في قصص لها أبعاد أكثر من مضمون حكايتها، لذا تتطلب من القارئ الاستيقاظ والتنبه طوال الوقت وإلا سيبقى مثل «الأطرش بالزفة»، لأنها رواية متعددة المستويات وتتطلب قارئا يعشق هذا النوع من الكتابات الصعبة.

Ad

رواية ذات أبعاد مختلفة تتداخل فيها أصوات الرواة التي تتشابك مع صوت الراوي الذي يتكلم أحيانا عن نفسه أو عن الشخصية أو يعود إلى كاتب المقال ليصبح ثلاث شخصيات تتكلم على سطور مشتركة ليسرد لنا حكايات متبادلة ما بين أبطال الرواية وهم الراوي وخاله وصديقه الدكتور، وشخص آخر يلتقون به في طريقهم إلى بيت خال الراوي الذي يقيم كل شهر أمسية ثقافية لتبادل القصص والحوارات الناتجة عن فهمها ومدى استيعابهم لها، وضمن هذا الاتجاه القصصي تنمو الرواية التي تبدو في الوهلة الأولى ألا ترابط بينها، لكنها في نهاية الأمر تشتبك مع حكايات أبطالها حتى وان لم تمت لهم بصلة، فالكاتب استفاد من تقنيات قصص ألف ليلة وليلة العربية.

قصص غريبة عن أفراد لهم صفات التوحد والكآبة ويعانون الوحدة والوساوس والأفكار الممسوسة المتعايشة مع واقع الموت، هذا هو ما تناولته قصة كلاوس هانهن وأخيه اسكندر الطفل الميت، الحي فقط في وجدان كلاوس الذي يطوع حياته ويسيرها بحسب رغبات الميت. قصة إنسانية رائعة.

وحكاية مارغريت وأخيها هنريش فهي لا تقل روعة عن الحكاية السابقة بل تتوحد معها في مناخاتها النفسية  المتعبة المعقدة الغامضة، فهي تحكي عن هنريش الذي يتلقى خبر موت أخته فيتوحد معها لدرجة التماثل، حتى يصل إلى أن يموت مثلها على سكة القطار، كل عوالم  قصص الرواية غير عادية فهي مشبعة بالغموض والتيه في مشاعر ملتبسة، وأحيانا يأتي الغرض منها لطرح وبيان طريقة العمل الإبداعي الأدبي وآلية وأساليبه الفنية، مثل ما جاء في قصة «من أجل كتابة قصة في خمس دقائق» فهي تحكي لنا كيف نكتب قصة في خمس دقائق تتداخل فيها القصة بشخصية الراوي معا ومن خلالها يتعرف القارئ على الطريقة التي اتبعها الكاتب في نسج تفاصيل الحكاية كتابتها بشكل رائع مذهل، وهو الأمر ذاته عندما يتناول موضوع الانتحال في العمل الروائي ويقدم الشروحات والدروس التي هي جزء من البناء الروائي، يبين فيها كيف يقوم المنتحل بقلب الطاولة على خصومه ويقلب الوضع على المهاجم بحيث يضع المهاجم ضد نفسه، قمة في التوظيف الأدائي للعمل الأدبي بحيث جعل من الشروح والدروس جزءا من البناء الدرامي لفنية الرواية.

هذه رواية لا تمنح القارئ فرصة لالتقاط أنفاسه من المفاجآت التي تكشف عن أداء فني مبهر في طريقة وكيفية طرح قضايا فنية أدبية إبداعية في رواية.

هذه قصص لا تقرأها لتعرف حكاياتها ونهاياتها، لكنها قصص لتشغيل العقل والتفكير في القصد منها وما تنحى إليه وما هي العبرة والأسباب التي تقدمها الرواية، والرؤية الفنية الجديدة التي يطرحها الكاتب فيها، الذي يقدم ذائقة كتابية ثقافية إبداعية جديدة على القارئ المبهور في هذا الأداء الذي يتخطى حدود المألوف المعتاد عليه.

وهذه فقرة من رؤيته في كتابة القصة: «إذا نظرنا بهذه الطريقة، فإن السر ليس في استنباط قصة، لأن هناك في الحقيقة فائضا من القصص، السر هو في نظرة المؤلف، في طريقة رؤية الأشياء، فإن كان جيدا حقا، فإنه يستمد المادة من تجربته الذاتية، ويلتقط منها شيئا جوهريا، يستخرج منها شيئا يكون ذا قيمة لأي شخص كان، أما إذا كان المؤلف سيئا، فإنه لن يتجاوز مطلقا حدود ما هو طرافة محضة.

لهذا فإن القصص التي ذكرناها اليوم تعتبر جيدة لأنها تعكس أمورا جوهرية وليست مجرد طرافات.