قالوا... وصدقتهم... ولكن!
قالوا في المثل الشعبي: «اللي يعيش يا ما يشوف... واللي يمشي بيشوف أكثر»!طول العمر يتيح لصاحبه معايشة أحداث يرى فيها الغرائب والعجائب كما يرى فيها الحياة بما يتاح له أن يراها وبقدرات متفاوتة ومتنوعة من شخص إلى آخر، لذلك فإن المعمرين من بني البشر يحفظون لنا أحداثاً وتواريخ هي الأقرب للصدق والحقيقة مما لو جاءتنا من ذاكرة حافظ أو في كتاب جامع، فأصحاب العمر الطويل يمدوننا بالكثير من المعارف والمشاهد التي تكون قد زالت بفعل عوامل التطور والتغيير في بعضها، فيكون وصفهم أكثر دقة خاصة إذا تم الاستشهاد ببعض آثار تؤكد هذا.
الذين يجالسونهم يتعرفون على الكثير من أسرار الحياة وتجاربهم معها في مواقف الشدة وفي أيام الرخاء، فيكون المثل مطابقا لشطره الأول «اللي يعيش يا ما يشوف»، فتصل هذه الرؤية إلى ما بعدهم من الأجيال حين تُروى بتفاصيلها الدقيقة والشواهد عليها.و»اللي يمشي بيشوف أكثر»!... فهذا ثابت للجميع بأن الحركة والتنقل تزيد التجربة والمعرفة، ورغم ان وسائل الاتصال والتواصل قديماً كانت بدائية وتعتمد على القوة البدنية ووسائطها من الخيل والجمال وغيرها، فإننا لو تفكرنا فيها لوجدناها متناسقة مع طبيعة الحياة البسيطة بالنسبة لنا، ولربما كانت أكثر تعقيداً في وقتها بالنسبة لمن عايشها.وهذه الوسائط البدائية كما نطلق عليها، قد أدت دورها الطبيعي في التنقل وفي الغزوات وفي التواصل بين المجموعات البشرية في أصقاع الأرض، وصنعت تبادلات وحوارات ومواقف وإبداعات نمشي إليها في أماكنها للتعرف من خلالها على أسرار الحياة في العصور السالفة.صدَّقتهُم! ولكن صورة هذا المثل الشعبي اكتسبت صيغة مخالفة في زماننا، فهل نجد تشابهاً بينه وبين صور قريبة؟لاشك في أن طبيعة الحياة الحديثة، ومنذ أن دخلت التكنولوجيا في حياة البشر بدءاً من اختراع الهاتف والكهرباء والسيارة والآلات البخارية وآلة التصوير الفوتوغرافي، وغيرها من المنجزات البشرية المبهرة والمفيدة، ترتب عليها المزيد من الاكتشافات التي بات من الصعب أن يستوعبها عقل ضعيف، وهي تتوالى في كل يوم إن لم نقل في كل لحظة، وفي سباق رهيب يأخذ بالألباب. هذه الأدوات الحديثة التي يكاد يستغني فيها الإنسان عن مجهوده البدني ليحقق ما يريد بمجرد ضغط خفيف على زر صغير فينفتح أمامه عالم كبير يستطيع أن يمشي فيه أكثر، بل لنا أن نقول «يمشي إليه العالم»، وهو جالس في مكانه يشرب قهوته ويتسامر مع أصدقائه!ولعلنا وصلنا إلى نتيجة، وهي أن المسافة أصبحت «تمشي إلينا» ونحن في أماكننا نتابع على طولها ما يجري من أحداث وتطورات لحظة بلحظة بالصوت والصورة، وفي وجود شواهد تؤكد كل ما يمشي إلينا دون لبس أو شك إلا في حالات يتدخل فيها «مكر» الإنسان لتفصيل حدث ما بما يوافق هواه ومبتغاه، وهذه استثنائية لا نريد التوقف عند المزيد من تفاصيلها.هل نقول أيضا إن «اللي يقعد بيشوف أكثر»؟! ويأخذ المثل منقلباً عكسياً لمنطوقه الأصلي فيتوافق مع معطيات العصر والزمن الذي نعيشه لما جد فيه من وسائط قلبت موازين الكثير مما اتفق عليه وكان منجزاً مبهراً بالأمس، وقد تحول إلى قيمة لا ينكرها أحد وإنما تم استبدالها بما هو أكثر نجعا واختصارا للوقت والفعل... نعم نستطيع تأكيد هذا!الأمم التي لا تشعر بهذا التغيير في ديناميكية المثل هي أمة أصابها الوهن فعجزت عن استيعاب كل جديد قادم من بعيد حتى لو سكن واستقر بين أيديها هذا الجديد وبإلحاح وفرض نفسه بقوة.بل نكاد نجزم أنها ستستخدمه استخداماً سيئاً حين تبحث عن مميزات فيه غير التي وجد من أجلها وتبدل خصائصه السامية إلى صفات وضيعة تجلب الشر للبشرية، والشواهد على مر الزمن كثيرة لا تحتاج منا إلى تفاصيل.وإنصافا فإن المثل يبقى على مضمونه لما فيه من قيمة تم التعامل معها جيلاً بعد جيل، إذ إن الذي تغير هو وسائط تحقيقه ومستجدات فرضت نفسها بقوة، فصارت هي عماد الحياة الجديدة ما يستوجب التمعن في كل ما وصلنا تراثاً من كل الحضارات السالفة والتعامل معه بأدوات جديدة من روح العصر الحديث.عندها سيكون المثل: «اللي يعيش يا ما يشوف... واللي يبحث تأتيه المسافات طوعاً فيعرف ويشوف أكثر»!* كاتب من كندا