بعد مئة عام... «المركزي الأميركي» يصمد أمام عواصف الزمن

نشر في 28-12-2013
آخر تحديث 28-12-2013 | 00:01
No Image Caption
ركز باراك أوباما والكونغرس أيضاً على المسؤوليات، وأعطى قانون «دود- فرانك» مجلس الاحتياط الفدرالي سلطة الإشراف على البنوك فحسب بل على أي مؤسسة مالية تعتبر «مهمة بشكل منهجي».
 إيكونوميست في عام 1913، ومع اقتراب موسم الأعياد كان هناك شيء واحد فقط وقف حائلاً بين وودرو ويلسون وتطلعه إلى الحصول على إجازة طال انتظارها في خليج المكسيك. كان الكونغرس الأميركي لا يزال يكافح من أجل مشروع قانون حول تأسيس "مجلس الاحتياط الفدرالي" (البنك المركزي) الأميركي، وقد هدد ويلسون بإبقاء الكونغرس في حالة انعقاد خلال عطلة عيد الميلاد إلى أن يصبح مشروع القانون جاهزاً للتوقيع من قبله.

بعد قرن من الزمن، لا يزال مجلس الاحتياط الفدرالي يلقي بظلاله على موسم الأعياد: لقد اجتمع للنظر في مسألة الحد من مشترياته الضخمة من السندات الحكومية. والأكثر من ذلك أن الجدال حول دوره استمر عاصفاً من دون أي تغيير. ومن أجل دعم الاقتصاد عمد في السنوات الأخيرة إلى انقاذ مجموعة من شركات "وول ستريت"، واضطلع بدور إشرافي جديد على النظام المالي، علاوة على تجميع أكثر من 3 تريليونات دولار على شكل سندات. وينتاب القلق العديد من الناس، بمن فيهم رئيس المجلس السابق بول فولكر، من أن مجلس الاحتياط الفدرالي أصبح "أكبر من حجمه".

ما من جديد في هذه المخاوف. وفي أول قرن بعد قيام أميركا، أقر الكونغرس لمرتين بنكين مركزيين بحكم الأمر الواقع، لكنه سمح لمواثيقهما بالسقوط تحت وطأة المقاومة من وجود مركزية للقوة المالية. وفي عام 1907 أثار فشل شركة ائتمان في نيويورك تدافعاً على البنوك في شتى أنحاء البلاد. ثم أفضى الهلع الناجم عن ذلك إلى البحث عن حل دائم لحالة عدم الاستقرار المالي المزمنة.

وقام الكونغرس بتشكيل لجنة برئاسة نيلسون ألدريتش، وهو سناتور جمهوري، وقد عمدت اللجنة إلى استشارة المصرفيين ودرست أوضاع البنوك المركزية في بريطانيا وألمانيا وفرنسا. ثم أوصت بتشكيل جمعية موسعة يتم تأليفها من بنوك خاصة تصدر عملتها الخاصة للبنوك الأعضاء التي تتعرض لأزمة تدافع عملاء. لكن العديد من الديمقراطيين تخوفوا من أن إدارة مصرفيين لبنك مركزي سوف تشدد من قبضتهم على المعروض النقدي في الأسواق وتحرم الشركات والمزارعين من الائتمان، وظنوا أن الحكومة سوف تكون أكثر تحرراً إذا كانت في موقع المسؤولية.

وفي حملته، الرئاسية في سنة 1912 هاجم ويلسون، وهو ديمقراطي، خطة ألدريتش باعتبارها مداهنة ورشوة لـ"سلطة المال". وعندما وصل إلى الحكم قام بتوجيه الكونغرس نحو إعادة كتابة تلك الخطة بغية خفض تأثير المصرفيين على الـ12 مصرفاً إقليمياً التي تشكل شبكة مجلس الاحتياط الفدرالي، وإضافة مجلس إدارة يعينه الرئيس من أجل الإشراف عليها. وبغية استرضاء وليم جننغز برايان، وهو زعيم الجناح الديمقراطي الذي كان يحظى بشعبية واسعة، تقرر اعتبار عملة مجلس الاحتياط الفدرالي التزامات مالية صرفة على الحكومة وليس البنوك. وقد استاء المصرفيون من هذه الخطة "الاشتراكية" لكن ويلسون تشبث بموقفه ووقع قرار إنشاء مجلس الاحتياط الفدرالي في 23 ديسمبر من سنة 1913.

وقد سمحت تسوية ويلسون، على الرغم من ذلك، لمجلس الاحتياط الفدرالي بهامش تفويض ضيق بشكل نسبي. وكان عمله ببساطة يقضي بإمداد "عملة مرنة": عندما تصبح البنوك في حاجة إلى مبالغ نقدية فإنها تستطيع الاقتراض من نافذة الخصم لدى مجلس الاحتياط الفدرالي وتقديم قروض إلى المزارع والشركات الأخرى على شكل ضمانة إضافية. وقد جعل هذا النظام من "الأوراق الحقيقية" من مجلس الاحتياط الفدرالي خادماً مستتراً لاحتياجات الاقتصاد الحقيقية. ولم تكن هناك ثمة توقعات بأن يبسط سيطرته على إمدادات الائتمان من أجل محاولة رسم صورة الاقتصاد. لكن ذلك تغير بعد وقت قصير: في العشرينيات من القرن الماضي بدأ مجلس الاحتياط الفدرالي بشراء وبيع السندات في السوق المفتوحة بغية تخفيف التقلبات في امدادات الائتمان.

وعلى الرغم من ذلك فقد عاد مجلس الاحتياط الفدرالي خلال فترة الركود الكبير إلى سلبيته الأصلية، وقلص عملياته في السوق المفتوحة وسمح لآلاف البنوك بأن تفشل. السبب على وجه التحديد لا يزال موضع جدال، ولكن أحد الأسباب تمثل في أن نظام "الأوراق الحقيقية" حافظ على تماسكه، ونظراً لأن البنوك لم تطلب الائتمان فإن مجلس الاحتياط الفدرالي لم يوفره، وأسهم في نقص الأموال على الرغم من انهيار الأسعار والانتاج.

ثم بشر انتخاب فرانكلين روزفلت في سنة 1932 بحدوث عملية إصلاح في النظام المالي، وتم الفصل بين البنوك التجارية والاستثمارية وطرح تأمين الإيداعات، وحصل مجلس الاحتياط الفدرالي على مزيد من التوجيه الجلي للاقتصاد. وقد سمح له بتقديم قروض إلى مزيد من المؤسسات، وأخذ المزيد من أنواع الضمانات الإضافية. وتم تكليف "لجنة السوق المفتوحة" الفدرالية الجديدة بالتأثير على "وضع الائتمان العام في البلاد".

هذا المزيج من البنوك المقيدة ومجلس احتياط فدرالي نشط أفضى إلى انتعاش الاقتصاد خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. ولكن ذلك المجلس وفي غمرة حماسته من أجل تعزيز التوظيف لم يعر انتباهاً كبيراً لمسألة التضخم: التي وصلت معدلاتها إلى رقم ثنائي في سبعينيات القرن الماضي- ودفع ذلك الكونغرس إلى إعطاء مجلس الاحتياط الفدرالي "تفويضاً ثنائياً" في عام 1977 حول استقرار الأسعار والتوظيف التام. وفي سنة 1979 تسلم السيد فولكر مهام منصبه وقضى على التضخم وأطلق مع خلفه آلان غرينسبان موجة الاعتدال العظيم- 25 عاماً من التضخم المنخفض والركود المعتدل النادر الحدوث، ومع تراجع الأزمات المصرفية تعطل عمل نافذة الخصم لدى مجلس الاحتياط الفدرالي.

يشبه الجدل الحالي حول دور مجلس الاحتياط الفدرالي إلى حد كبير ذلك الجدل الذي سبق تأسيسه ثم إصلاحه خلال الثلاثينيات من القرن الماضي. وقد كشفت أزمة مالية مدمرة مدى هشاشة النظام المالي وأذكت الغضب الشعبي من المصرفيين. ثم دعا رئيس ديمقراطي إلى دور أكثر قوة وفعالية للحكومة في إدارة الاقتصاد والنظام المالي على وجه الخصوص. وبرز مجلس الاحتياط الفدرالي أقوى من أي وقت مضى، وكان البعض من ذلك الوضع من نتاجه الخاص. وبهدف احتواء أزمة نجمت من خارج بنوك تستقبل إيداعات وسَّع مجلس الاحتياط الفدرالي سلطته عبر إقراض بنوك الاستثمار، وشركة تأمين، وإصدار أوراق تجارية مالية. وخفض معدلات الفائدة إلى الصفر ونقل السياسة النقدية إلى ميدان أكثر تحرراً من خلال شراء سندات بأموال نقدية مطبوعة حديثاً والتزام بإبقاء معدلات الفائدة قريبة من الصفر لسنوات مقبلة.

وركز باراك أوباما والكونغرس أيضاً على المسؤوليات، وأعطى قانون "دود- فرانك" مجلس الاحتياط الفدرالي سلطة الإشراف ليس فقط على البنوك بل على أي مؤسسة مالية تعتبر "مهمة بشكل منهجي". وعبر اختياره للسيدة جانيت يلين لخلافة بن برناكي في رئاسة مجلس الاحتياط الفدرالي تحدث الرئيس أوباما عن "زيادة التوظيف وخلق وظائف".

لم يسعد ذلك الجميع، وشعر كثيرون بالغضب لأن عمليات شراء السندات من جانب مجلس الاحتياط الفدرالي أفضت إلى مزيد من تضخم فقاعات الأصول بدلاً من تعزيز التوظيف. ويشعر فولكر بقلق من أن مجلس الاحتياط الفدرالي "استحوذ على قدر كبير من السلطة، واستخدم الكثير منها وابتدع بعضها الآخر... وللمبالغة فإن كل شيء حدث في الاقتصاد كان بسبب مجلس الاحتياط الفدرالي. وأنا أظن أن ذلك ينطوي على القليل من الخطر وعلى الكثير من الأعباء".

يتوق العديد من الجمهوريين إلى الأيام التي كانت واشنطن فيها أقل تحولاً نحو مجلس الاحتياط الفدرالي وكان الذهب أكثر أهمية. ويجرد مشروع قانون برعاية الجمهوريين مجلس الاحتياط الفدرالي من أي مسؤولية عن التوظيف التام، ويحد من قدرته على شراء السندات وإعطاء مزيد من القرار إلى مديري البنوك الاقليمية الـ12 التابعة له.

إنهم يسبحون ضد تيار التاريخ. وقبل قرن من الزمن سعى ويلسون إلى قيام بنك مركزي يدعم الاقتصاد برمته، وليس "وول ستريت" فقط. ومع كل أزمة جديدة استنتج من جاء بعده أن ذلك يتطلب وجود مجلس احتياط فدرالي أكبر حجماً وفعالية.

back to top