ماذا بعد كردستان الكبرى؟
لست من المؤمنين بنظرية المؤامرة بشكلها وحتميتها المطلقة، التي يؤمن بها البعض نتيجة لقراءاته للتاريخ أو بسبب متابعته للمعطيات العالمية ولحسن نواياه أحياناً، أو لمن يروجها بسوء نية ليخفي نواياه السيئة تجاه المنطقة والعالم العربي، وتحديداً كما تبرر إيران كل أفعالها في سورية ولبنان بأنها لمواجهة المؤامرة الدولية تجاه المسلمين والمقاومة! لكنني أعتقد بشدة أن الدول القوية والكبرى، التي تسيطر على العالم، لا تعمل بشكل عبثي، بل لديها استراتيجيات وخطط تنفذها لحماية مصالحها وإبقاء نفوذها على المناطق المهمة، ومنها العالم العربي الذي يسيطر على ممرات المواصلات العالمية والطاقة، ويشكل أيضا تهديداً على قاعدتها المتقدمة الدائمة في الشرق الأوسط وإسرائيل.
ومن هنا يرى المؤمنون بنظرية المؤامرة أن مفكري الغرب، والأوروبيين خاصة، يؤكدون أن تحرك نزعات الأقليات الانفصالية في العالم العربي هو مهم جداً لتقطيع أوصاله وحفظ مصالح الغرب فيه، ويبدو أن تلك المعطيات التي كان يقلل من شأنها البعض تثبت الآن جدارتها بعد ما فعله الأكراد في العراق وما يفعلونه اليوم من ضرب الثورة السورية في خاصرتها لتجزئة البلد، وكذلك ما يفعله الشيعة المرتبطون بولاية الفقيه من البصرة حتى بوابة فاطمة في أقصى الجنوب اللبناني وفي اليمن أيضاً، وكذلك بداية تدخل الدروز ضد الثورة السورية، عبر حزب التوحيد اللبناني في محافظة السويداء السورية. كل الأقليات الانفصالية في العالم العربي تتخذ مثالا من النموذج الكردي، وما فعله بالعراق بعد سقوط نظام صدام حسين البعثي من انفصال قسري فرض على الدولة العراقية بالقوة تحت عنوان الفدرالية الكاذب وغير المطبق فعلياً، في ما يفتخر الغرب بأنه استطاع أن يفصل إقليم كردستان عن العالم العربي الذي أنجب صلاح الدين الأيوبي قبل قرون، وهو الذي أخرجهم من القدس، بل إن الدبلوماسي الأميركي المهم جيفري فيلتمان كانت أهم مراحل حياته السياسية عندما عمل في مكتب الارتباط الأميركي مع الأكراد في أربيل، في الفترة التي تم خلالها صناعة الدولة الكردية بمؤسساتها وقواتها المسلحة واقتصادها النفطي المتمرد على منهج الفدرالية الصحيحة للدولة العراقية. وعلى نفس النسق يضرب الأكراد الدولة السورية وثورة أهل الشام اليوم، كما أعلن الائتلاف الوطني لقوى الثورة السورية أن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي هو حزب معاد للثورة السورية وداعم لنظام الأسد، بعد أن أعلن إدارة مدنية لعزل منطقة من سورية باسم غرب كردستان –سورية، وهو أمر خطير، بينما يرى الأكراد بانتهازية أن مصائب العرب هي الفرصة التاريخية لهم لإقامة كردستان الكبرى، التي لا يرى الكثيرون فرصة لبقائها بسبب ظروف موقعها الجغرافي المحصور بلا منفذ مع العالم –رغم الخرائط المفبركة عن حجم كردستان حتى البحر الأبيض- واقتصادها المرتبط بجيرانها براً وجواً، فلا كردستان المفتتة للعالم العربي قادرة على أن تحافظ على حسن علاقاتها مع العرب مستقبلاً، ولا ثاراتها التاريخية مع تركيا ستجعلها ممراً للأكراد إلى أوروبا، ولا إيران ذات الحساسية العالية من التصنيفات العرقية ستتسامح مع ذلك الكيان. الأكراد يلعبون لعبة خطيرة، وخاصة مع العرب، وينقلبون إلى كيان يشجع الأقليات على الانقلاب على محيطها العربي وتدميره، بينما هناك أقليات في العالم كانت ظروفها الجغرافية والاقتصادية أفضل بكثير من الأكراد، لكنهم فضلوا بذكاء وفطنة البقاء كجزء من محيطهم مع امتيازات مختلفة، منها الحكم الذاتي، ورغم إيماننا بالظلم الذي وقع على الأكراد في فترات زمنية محدودة فإنهم يتحركون لصالح كيان بلا أفق في زمن التكتلات العالمية الكبرى، فالدول العربية النفطية وغير النفطية الصغيرة لديها مشروعها العربي الكبير عندما تكتمل ظروفه، وكذلك الآسيويون والأوروبيون، وفي أميركا الجنوبية وخلافه، لكن السؤال: كردستان الكبرى أين أفقها وتكتلها في عالم الكبار، وما هو مصيرها بعد أن يستنفد الكبار الهدف الذي أنشأوها من أجله؟ لتفتيت محيطها العربي وجعل كل الأقليات في المنطقة تتبع خطاها المدمرة.