فرانكشتاين في بغداد

نشر في 16-07-2014
آخر تحديث 16-07-2014 | 00:01
 طالب الرفاعي في الصفحة الأخيرة من رواية أحمد سعداوي "فرانكشتاين في بغداد" الصادرة عن منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2013، والحاصلة على الجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" في دورته 2013، وفي إشارات للكاتب ترد عبارة: "الشِسْمه: (اللي شو اسمه) مفرده عراقية دارجة، ويُقصد بها حرفياً: الذي لا أعرف، أو لا أتذكر، ما هو اسمه"، والوقوف عند هذه الإشارة يفسّر تماماً أجواء الرواية، ففي محاولة لفهم ما جرى ويجري في بغداد يمكن إطلاق أي نعت إلا المنطق والعقلانية، فما يحدث لا اسم له، كان وسيبقى "الشِسْمه".

الدخول لعالم أحمد سعداوي الروائي سلسل يأخذ القارئ بمكر، تختلط فيه الحقيقة بالخيال، ليجد نفسه أحد سكان حي "البتاويين" يعيش معهم همومهم اليومية، وما يلبث أن يشعر أنه محاصر بأجواء كابوسية قاتلة، ويخشى أن يكون هو ضحية الشِسْمه القادمة، ومؤكد أن قراء الرواية في شتى أقطار الوطن العربي، وربما العالم الغربي، هم ضحايا وأسرى أجوائها القاتمة، حتى ان القارئ، ولحظة ينتهي من قراءة الرواية، يشعر أنه مقذوف في فراغ كبير أحدثته تفجيرات الرواية!

الرواية تأتي كاملة بصيغة "الراوي العليم" فوحده الحاضر على امتداد صفحات الرواية الـ350. وحده منْ يخطط لكل شيء، ويدير كل شيء، ويتوقع كل شيء. ووحده يضع الجمل على ألسنة شخوص الرواية. ما قالوا وما يقولون وما سيقولون، وهو لا يقدم عوالمهم الحاضرة بأدق تفاصيلها، لكنه يتنبأ بما ستؤول إليه مصائرهم. وهو في كل ما يقول ويتنبأ صادق، فلا صوت يعلو على صوته.

أنا من موقف شخصي، وإذا أفرّق تماماً بين صيغة الراوي العليم وصوت المؤلف الصريح، ما عدت أحبّذ صيغة الراوي العليم، الراوي الكلي المعرفة، وما أكثر ما تساءلت: أين تراه يقبع هذا الرواي؟ وما زمن خطابه اللحظي، وعلاقة هذا الزمن بأزمان الحكاية؟ ومن أين يأتي بمعرفة كلية، تمكّنه من البت حتى في نوايا الأنفس البشرية، وتوقع مصائرها.

صحيح أن الرواية العربية، ورثت كما الرواية الأجنبية صيغة الراوي العليم من رواية القرن التاسع عشر العظيمة، لكن اللحظة الإنسانية الراهنة، بمفرداتها التقنية المتطورة، وثورة معلوماتها وأجهزتها الذكية التي اختصرت العالم ليكون قرية كونية، ما عادت تحتمل صغية الرواي العليم، ولا عاد حضوره مبرراً حتى ولو كان فاعلاً. ولذا أرى أن الروائي مطالب بالبحث عن أدواته الفنية التي تمكّنه من سرد أحداث روايته بطريقة عصرية مبتكرة. وربما في اللب من إبداع الرواية، القدرة على ابتداع أشكال جديدة تمهد الطريق لفهم الواقع بشكل جديد يتناسب واللحظة الراهنة.

رواية "فرانكشتاين في بغداد" تتحدث عن قيام أحد شخصياتها "هادي العتاك" بتجميع بقايا جثث التفجيرات، ليتجسد من خلالها كائن غريب هو "الشِسمه"، يقوم بتنفيذ عمليات انتقام، تطال من تسبب في قتل كل جزء من أجزاء جسمه المتحلل، وفي الوقت نفسه يشكل هاجساً أمنياً للحكومة العراقية والقوات الأميركية ولـ"دائرة المتابعة والتعقيب" ولعموم سكان بغداد! خاصة وأن جسم هذا الشِسْمه، لا يتأثر بالرصاص، وله قدرة على التملص من أي محاولة للإمساك به.

يصوّر أحمد سعداوي عوالم بغداد بشراً وحجراً بشكل مؤثر ولافت، فشخصيات الرواية تتحرك على أرض الرواية بشراً من دم ولحم، تعيش مأزق اللحظة الإنسانية. مثلما يعيش المكان العراقي التفجيرات والتحطيم والمحو. ويُحسب لسعداوي قدرته على جعل المكان بطلاً أساسياً حاضراً من أبطال الرواية. كما أن سعداوي استعان ووظّف الخيال والفانتازيا لتجسيد واقع حياتي يصعب جداً تصويره وكتابته بواقعية، فليس من واقعية تستطيع استيعاب هذا القتل والتوحش وهذا الجنون.

back to top