السوق السوداء

نشر في 05-07-2014
آخر تحديث 05-07-2014 | 00:01
 مجدي الطيب في السادس من ديسمبر عام 2015، نحتفل بذكرى مرور سبعين عاماً على إنتاج فيلم {السوق السوداء} من تأليف كامل التلمساني وإخراجه، ورغم هذا فإن من يشاهده اليوم سيظن أنه أنتج في الأمس القريب؛ فالفيلم يتناول قضية حيوية ما زالت تفرض نفسها على واقعنا، وأعني بها ظاهرة تجار الحروب والأزمات، ممن يسيطر عليهم الجشع، ويدفعهم الحب المرضي للمال، إلى استغلال المحن والشدائد التي تمر بها الأمم والشعوب لتحقيق مكسب مادي سريع!

يرصد {التلمساني} حال حارة من حواري القاهرة القديمة يتهددها خطر الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، في أعقاب إعلان الحرب بين ألمانيا وبريطانيا العظمى، ومنذ اللقطة الأولى في الفيلم يوظف المخرج الصورة، التي قالت العناوين إنها لأحمد خورشيد، للتحذير من مغبة ما سيحدث؛ حيث نرى أقداماً وهي تُسرع الخطى لمغادرة بركة وحل، بينما يظهر في الخلفية ملصق فيلم {حياة الظلام} بطولة محسن سرحان، وسرعان ما تنتقل الإشارات الموحية إلى الحوار، حيث يحار أهل الحارة في تفسير منام {الحلاق} (كمال المصري) الذي رأى {ثعباناً ضخماً يشفط ماء النيل}، وبعدها يعود المخرج إلى استكمال ما بدأه من تنويه إلى الحب الذي توطد بين قلبي ساكن السطوح حامد أفندي (عماد حمدي) وجارته {نجية} (عقيلة راتب)  ابنة الرجل الطيب أبو محمود (زكي رستم) حيث يبارك الأب علاقتهما، ويطلب مهلة لتجهيز ابنته، فيما تخيم نُذر الحرب على العالم، ومصر التي ستُصبح طرفاً في حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل، كونها ترزح تحت نير الاحتلال البريطاني!

هنا تتباين ردود الأفعال، في الحارة، تجاه الحرب التي تدق الأبواب، ففي الوقت الذي يرى فيه البعض أنها ستمر من دون خسائر كما مرت الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) يُدرك آخرون أن الأزمة خطيرة هذه المرة بينما يرى سيد البقال (عبد الفتاح القصري) أن الفرصة مواتية لثراء سريع، ويسعى إلى إقناع أبو محمود بالدخول معه في شراكة يتم بمقتضاها جمع السلع التموينية، والمواد البترولية، من الأسواق، وتخزينها لفترة محدودة قبل أن يجري طرحها بأسعار عالية تُرهق كاهل المواطن البسيط، وتُزيد معاناته اليومية، في ما يُسمى {السوق السوداء}، وهو العرض الذي يلقى استجابة لدى أبو محمود ظناً منه أنها الوسيلة الناجحة لجمع المال الذي يعجل بزواج ابنته!

ينجح الفيلم في رصد التحولات التي تطاول حياة سيد البقال وأبو محمود، والتغيرات التي تطرأ على شخصيتيهما. يحاول الأول تعويض جهله باكتناز الأموال، وامتلاك الهيبة التي تمكنه من السيطرة على أهل الحارة، بينما يُهمل الثاني زوجته وابنته، وينغمس في حياة الليل والمجون، كذلك يضع العراقيل في طريق حامد أفندي كي لا يُتمم الزيجة. لكن المخرج/ المؤلف يستنكر، من خلال شخصية حامد، إذعان الأهالي للوضع الراهن، وسلبيتهم في مواجهة جشع واستغلال التجار، لكن عماد حمدي بدا وكأنه خطيب اعتلى المنبر في جامع، وليس ممثلاً على الشاشة، كما حفل الفيلم ببعض المبالغات المعتادة في سينما تلك الفترة، والنبرة الإنشائية الزاعقة، والرسائل التعليمية الموجهة حول أهمية تعليم الأجيال الجديدة كسبيل وحيد لقهر الجهل والفقر والمرض، فضلاً عن الأغاني المُقحمة من دون مبرر درامي، والهزال الإنتاجي؛ فالغارة على الإسكندرية ثم القاهرة يتم التنويه لهما بصورة هزيلة، وجميع مشاهد الفيلم تم تصويرها في ديكور متواضع، كما تأتي النهاية السعيدة بمثابة تكريس للنزعة التقليدية التي كانت سائدة في سينما الأربعينيات والخمسينيات، فالأجهزة الأمنية تتوصل إلى المخازن السرية للسلع المهربة، وتقبض على تجار السوق السوداء، وعلى رأسهم سيد البقال وأبو محمود، الذي يُطالب أهل بيته بالاعتماد على حامد أفندي، في اعتراف به كزوج لابنته نجية، ويخرج أطفال المدارس ليغنوا للوطن والملك، الذي لم ينس المخرج الإشارة إليه بعبارة على جدار تقول: {يعيش جلالة الملك}.

في فيلم {السوق السوداء} حديث عن البلد الذي أضير من جشع التجار بأكثر مما أضير من القنابل، والشدائد التي تُظهر معدن الرجال، والإنسانية التي تتعارض والأنانية، وإعلاء شأن المصلحة العامة على حساب المصلحة الخاصة. لكن كامل التلمساني يقطع شوط الجرأة إلى نهايته عندما يصف التجار الجشعين بأنهم {حيوانات بلا ضمير} خانوا البلد الذي ائتمنهم، كما تبنى الدعوة إلى المقاطعة كسلاح اقتصادي فاعل في مواجهة تحايل التجار، وإسقاط أي مؤسسة اقتصادية في حال انحرفت عن مسارها، وهي رسائل ثورية بامتياز، إذا نظرنا إليها بمقاييس تلك الفترة، التي لم تكن تسمح بأي نوع من التحريض. لكن التلمساني مرر أفكاره بذكاء، وتجلى وعيه السياسي بوضوح عندما ثمن دور الروح الجماعية في إسقاط أوكار الفساد.

 

back to top