المشكلة أنهم صدقوا

نشر في 30-11-2013
آخر تحديث 30-11-2013 | 00:01
 عبداللطيف المناوي الضجيج كفيل بخلق انطباعات غير حقيقية، هي مسألة أشبه بصوت الضفادع في جوف الليل تظنها وحوشاً كاسرة لضخامتها وضجيجها، ولكن في ضوء الحقيقة تكتشف الأحجام الحقيقية للضفادع، هذه الصورة شبيهة نسبياً بما يحدث في مصر الآن، إذ تتنافس ما يسمى بالقوى السياسية والأحزاب، التي أتحدى أي مصري أو عربي أن يعرف عددها أو يميز قادتها، في إحداث أكبر قدر من الضجيج حتى يظن مَن لا يعلم أنها قوى سياسية جبارة قادرة على حشد الجماهير الجرارة خلفها، في الوقت الذي يؤكد الواقع الذي نعيشه أنهم لا يستطيعون حشد عدد ركاب حافلة عامة، ينسحب هذا الوصف على الأحزاب وما اصطُلِح على تسميتها بالقوى السياسية التي لا تملك من عناصر القوة سوى الأحرف المشتركة بين "القوة" و"القوى".

 المشكلة أن هؤلاء قد نجحوا في خلق مناخ عام كاذب أنهم الممثلون الحقيقيون للشعب المصري، وأن ما ينطقون به لا يصدر عن هوى بل هو صوت الجماهير وإرادتها، وبناءً على ذلك يتحكمون في رسم مصير الأمة وتحديد مستقبلها، ومع الأسف ليس هناك من يوقفهم عند الحدود الطبيعية لهم، الأمر الأكيد أنه ليس هناك في مصر حتى الآن ما يمكن وصفه بقوى سياسية متجانسة يمكن أن تشكل ثقلاً حقيقياً أو وجوداً أصيلاً في مصر، ويمكن أن نتوقف عند بعض النقاط التي ستقف دليلاً على صحة ما أدعي.

الانتخابات البرلمانية سواء ما قبل يناير أو ما بعدها في مصر أثبتت أنه ليس في مصر أحزاب، وأن كل ما مررنا به خلال العقود الأخيرة منذ عام 1977 مع الإطلاق الثاني للتعدد الحزبي لم يكن إلا وهماً كبيراً، أو مشروعاً تم إجهاضه على مدار السنين، وقبل أن أستطرد في تفسير ذلك قد يكون من المفيد التذكير بأن الحياة الحزبية في مصر شهدت انطلاقتها الأولى عام 1907، وهو العام الذي أطلق عليه المؤرخون "عام الأحزاب"، حيث شهد ميلاد خمسة أحزاب هي: الحزب الوطني الحر، الذي سُمي فيما بعد حزب الأحرار، والحزب الجمهوري المصري، وحزب الأمة، وحزب الإصلاح على المبادئ الدستورية، والحزب الوطني، ثم توالى بعد ذلك ظهور عدد من الأحزاب خلال بقية هذه المرحلة مثل حزب النبلاء أو الأعيان عام 1908، والحزب الاشتراكي المبارك عام 1909.

وفي الفترة التالية منذ عام 1919 حتى 1952 شهدت مصر شكلاً من أشكال التعددية الحزبية، وشهدت أنواعاً حزبية مثل الأحزاب الليبرالية: وهي تشمل حزب الوفد، إلى جانب الأحزاب المنشقة عنه، الأحزاب الاشتراكية، وأحزاب السراي "الأحزاب الموالية للملك"، والأحزاب النسائية والأحزاب والجماعات الدينية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين.

أما مرحلة التنظيم السياسي الواحد من 1953 حتى 1976 فقد بدأت باتخاذ مجلس قيادة الثورة عدة إجراءات في سبتمبر عام 1953، كحل الأحزاب السياسية القائمة، وحظر تكوين أحزاب سياسية جديدة، وبذلك انتهت مرحلة التعددية الحزبية، وبدأت مرحلة جديدة اتسمت بالاعتماد بصفة رئيسية على التنظيم السياسي الواحد.

ثم جاءت مرحلة التعددية الحزبية المقيدة من عام 1977 - 25 يناير 2011، هذه المرحلة التي بدأت إرهاصاتها الأولى مع قرار الرئيس السادات في مارس عام 1976 بقيام ثلاثة منابر حزبية في إطار الاتحاد الاشتراكي تمثل اليمين والوسط واليسار، ثم تحويلها في 22 نوفمبر من العام نفسه إلى أحزاب سياسية كانت النواة الأولى للتعددية الحزبية المقيدة في عام 1977، وقد بلغ عدد الأحزاب في هذه المرحلة 24 حزباً على رأسها الحزب الوطني الديمقراطي الذي احتل مكان حزب مصر الحاكم قبله، ورغم هذا العدد الكبير من الأحزاب فإنه كان من العسير على أي شخص أن يتذكر غالبية هذه الأحزاب، ومارس الحزب الوطني وقتها سلوكاً حاصر فيه جميع القوى الليبرالية والمدنية الأخرى، فضعف وأضعف الجميع، وهذا الكلام سبق أن كتبته من قبل قبيل وعقب انتخابات 2010.

نشأة أحزاب المعارضة المصرية الرئيسية في المرحلة التالية لثورة يوليو كانت إحدى المشكلات الرئيسية في مدى جدية وتأثير المعارضة، فقد وُلِدت من رحم النظام، ذلك أن التجربة الحزبية جاءت من قمة الهرم السياسي أي من النظام باعتبارها قراراً مركزياً من السلطة المركزية ممثلة في الحاكم، هذا يتناقض كلياً مع مفهوم الحزب الذي هو بالضرورة تعبير عن قوة أو قوى في المجتمع تطورت لتشكل كياناً يعبر عن مواقفها ومصالحها، وبالتالي فإن ما حدث لم يكن كذلك، بالإضافة إلى أن هذه النشأة أثرت بالطبع على علاقة المعارضة بالنظام منذ البداية، كذلك ضعف التأييد الجماهيري الذي قد يمنح لهذه الأحزاب، باعتبارها امتداداً للنظام أو مجرد واجهة لتجميل صورته.

نتيجة لهذه النشأة وأسلوب التكوين فقد ظلت هذه الأحزاب مجرد نقطة صغيرة وسط جموع المصريين الكثيفة غير قادرة على إقناع وتعبئة الجماهير، أو الضغط بشكل مؤثر، الآن حسب آخر الإحصاءات المتوافرة فإن مصر بها أكبر عدد من الأحزاب في تاريخها، ورغم تزايد هذا العدد فإن هذا ليس دليلاً على قوة النظام الحزبي في مصر، وقد أتت مؤشرات الانتخابات الحالية لتؤكد الحقيقة التي علينا مواجهتها أننا لا نملك الملامح الحقيقية لنظام حزبي حقيقي، فما بالك بتعدد حزبي حقيقي.

وتظل الحقيقة الراسخة أن كل القوى السياسية المصرية الحاضرة على الساحة اليوم لا تعبر عن حضور حقيقي ولا تمثل المصريين، المشكلة أنهم غير مقتنعين بهذه الحقيقة وصدّقوا أنهم يمثلون المصريين، ليس مجرد تمثيل بل تتخطى أوهامهم الحدود ليضعوا أنفسهم أوصياء، لابد من قراءة الظواهر وفهمها لمعالجتها.

back to top