في مقدمته لكتابه {لطائف السَّمَر في سكان الزهرة والقمر} يشير ميخائيل الصقال إلى أن هذا {الكتاب فيه من طلاوة المجاز وملاحة المرسل وحلاوة الاستعارة، ما يهذب الأخلاق ويروض النفوس وينقي الضمائر. وفيه من لطافة الكنية وحسن التورية ورقة الإشارة، ما ينور البصائر ويرقص الأفكار ويطيب السرائر: سميته بالغاية في البداية والنهاية: فاقبلوا عليه تجدوا فوائد وآداباً ألقاها علي والدي فكانت عجباً عجاباً. وتجدوا فيه من الحكم والمواعظ، ما لا بد منه للحكيم والواعظ}.

Ad

وقدم الكاتب نبيل سليمان لطبعة الدوحة قائلاً: {كما القاهرة، وربما أكثر من بيروت، كانت حلب القرن التاسع عشر بؤرة نهضوية في الفكر والأدب والفن، وقد اشتهر من تلك البؤرة، بخاصة، عبد الرحمن الكواكبي وفرنسيس المراش ورزق الله حسون وجبرائيل الدلال وعبد الله المراش}. مستدركاً: {كان ولم يزل حق ميخائيل الصقال في أن يعرف مغمطاً، شأنه شأن أبيه الأديب الرائد المجهول: أنطوان الصقال}.

على خيال {ألف ليلة وليلة} تتأسس هذه الرواية المجهولة التي نشرت في القاهرة عام 1907. تنهض رواية {لطائف السمر} على لعبة الحلم، إذ يرى الحالم أباه المتوفى عائداً من كوكب الزهرة {مقام الأبرار الصالحين} ليصف لابنه الذي لم يزل على الأرض {سجن العاصين}، كيف هي الحياة في ذلك البرزخ الفاضل، ومن هذا الباب تأتي المقارنات مع الواقع، ويأتي نقده لكل أوجه الفساد الإداري والاجتماعي.

أسئلة وجودية

يلفت نبيل سليمان إلى أنه، بعد ترجمة الكاتب لنفسه ولأبيه في بداية الكتاب، يحدّد في فصل {في رؤياي لوالدي} أنه قد التمس وعداً من أبيه، عندما دنت ساعته، أن يتجلى له بعد الرحيل، ليخبره بما سيرى ويعلم. وحين بلغ الابن التاسعة والأربعين، بعد ستة عشر عاماً من وفاة والده، جلس وحيداً يتفكر في الكون والخليقة، حتى حار في أمره، وإذ أغفى عاين والده مقبلاً في بهاء ونور لا يستطيع بشر وصفهما، ليفي بوعد التجلي بعد الموت، وهكذا بالحلم تبدأ رواية {لطائف السمر}، وبهذه اللعبة الفنية ستنهض إلى أن تبلغ الخاتمة بيقظة الحالم.

في الباب الأول يسأل ميخائيل الصقال والده: {أيجوز لي أن أسالك: هل نحن في الأرض أم في الزهرة؟ فقال: لسنا في إحداهما، وإنما نحن بينهما، لأنه لا يسمح لي بأن أعود إلى الأرض سجن العاصين والمخالفين، ولا يؤذن لك في الدخول إلى الزهرة لأنها مقام الأبرار الصالحين.»

يتناول الباب الثاني من الرواية، العبادة والمعابد والصلاة والأعياد والحج. كذلك يخص {القتل الديني} بأحد فصول الكتاب، الذي يبدأ بقول الوالد {إن من الجنايات الفظيعة التي يتأسف على ارتكابها أهل الزهرة ويتألمون منها تألماً عظيماً هي جناية القتل}.

توزعت فصول الرواية بين توحيد الأديان والرد على من يدعي بأنها قوانين وضعها عقلاء البشر، وبين المجوسية والوثنية والشعوذة والكفر. وعلى نحو ما تخاطب الرواية يوم كاتبها فهي تخاطب يومنا بعد أكثر من قرن.

وضعت {لطائف السّمر} القضاء في المحل الأول، وربما يرجع ذلك إلى عمل ميخائيل الصقال في المحاماة، وأفردت الرواية صدرها لكل ما يتعلق بالقضاء، من القضاة والمحامين والسجون والأحكام والحقوق والعقاب. وجعلت الرواية للقضاة رأس الهرم الطبقي في مجتمع الزهرة في الباب السادي، بينما جعلت للصناع والزراع الطبقة الثانية. وفي المجتمع الأرضي ظلت الطبقة الثانية كما هي، وخصت (السوقي) بالطبقة الثالثة، بينما جعلت الطبقة الأولى للملوك والعلماء والكهنة والقواد والحكام وأرباب السياسة.

آفة الحقوق

يحدد الاب آفة الحقوق في مجتمع الابن، أي في المجتمع السوري مطلع القرن العشرين, وصولاً إلى القرن الحادي والعشرين، بالمحامين، إذ يزداد التزوير والاحتيال بازديادهم. وإذا كان المحامي لا يصير محامياً إلا إذا كان عالماً متبحراً في العلم، فإن أكثر المحامين في ذلك الزمن أكلة لأموال اليتامى والأرامل. ويخص الوالد المحامين الذين تعينهم الحكومة للدفاع عن المتهمين.

تتناول {لطائف السمر}، في فصول الإصلاح الاجتماعي ما يتعلق بالأطباء، وتتبدى الثقافة العلمية العميقة للكاتب. وكما سلق لسان الوالد المحامين والقضاة، يسلق الأطباء الأرضيين، إذ يخاطب ابنه الأكبر بأن أكثر هؤلاء مجربون وممتحنون، ليسوا مداوين، وبأنهم هم الطاعون، وهم الأمراض الفاتكة، ونقرأ: {ما أكثر الأطباء عندكم فهم قتلة، هم سفاكو الدماء الطاهرة التي ائتمنوا عليها هم أعداء الإنسان».

لغة واحدة

تردد {لطائف السمر} الدعوة إلى اللغة الواحدة في الأرض، سبيلاً إلى توحيد الأديان والبشر، فتعدد اللغات يحدث البلبلة، رغم ذلك يمتدح الأب اللغات الأجنبية، وهو كان يتقن اللغة الإنكليزية، مقابل انتقاده المرير للغة العربية ولتعليمها في المدارس. فاللغة العربية كما يتنبأ الأب، ستمسي لغة متروكة، ولو لم تكن من اللغات الدينية لصارت تشبه اللغة القبطية التي امست لغة قديمة مهجورة. أما علة العربية فتكمن في صعوبتها وفي استغلاق قواعدها على فهم الطلاب، يقول الكاتب، {ومن البلبلة عندكم أن القارئ لا يشتهي أن يراجع كتاب لغة لكثرة ما فيه من الشروح والنقول والآراء والأقوال والروايات والحكايات المملة والمختلفة والمتناقضة}.

يذكر أن {لطائف السّمر} ما كادت تصدر حتى أخذت السهام ترشقها، وقد بلغت حد تكفير الكاتب بدعوى التجرؤ على المؤسسة الدينية، ولما تضمنته من نقد ومن اقتراحات تتعلق بالحياة الروحية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية. ولأن ميخائيل الصقال توقع ذلك الهجوم عليه وعلى روايته، فقد استشار آخرين فيها قبل الطباعة، وهذا ما جعله يهمش الفصل السابع من الباب الثامن، بنفي لإيمانه بالتقمص أو التناسخ، إلى أن يقول مخاطباً القارئ: {لكل ما يمر بك لا يطابق الدين القويم إن هو إلا خواطر شعرية سانحة، ورُب شعر في نثر ونثر في شعر، والمقصود هو تهذيب الأخلاق وتفكهة القارئين}.

أنطون ميخائيل الصقال. ولد في مدينة حلب، وفيها توفي. عاش في سورية، ولبنان، ومالطة. تلقى دروسه في مدرسة {عين ورقة} - مدرسة وطنية للطائفة المارونية في لبنان - فأتقن فيها العربية والسريانية، ثم درس التركية، والإنكليزية. كان له اهتمام بالعلوم الطبيعية والرياضيات، إلى جانب شغفه بالشعر والأدب.

اشتغل في جزيرة مالطة مصححاً للكتب العربية في مطبعتها التي أسسها المرسلون الأميركيون عام 1822، كذلك كان يدرس اللغة العربية في إحدى مدارسها، وعندما نشبت حرب القرم بين روسيا والخلافة العثمانية عام 1854 عين مترجماً لقائد الجيوش الإنكليزية التي ناصرت الأتراك في هذه الحرب. وبعد انتهائها عاد إلى حلب.