الذكاء الذي نقصده هنا هو ما يعرف بالذكاء الوجداني، وهو مصطلح جديد ظهر في التسعينيات من القرن الماضي في الولايات المتحدة، يتميز عن الذكاء العقلي في كونه يتمتع بهامش تطوير أوسع، بالإضافة إلى قدرته الخارقة على التأثير في نجاح الإنسان أكثر من تأثير الذكاء العقلي.

Ad

تعريف الذكاء الوجداني

لم يستقر رأي الفلاسفة على تعريف واحد للذكاء الوجداني وعليه سنعرض بعض التعاريف المهمة، ثم نحاول أن نخرج بتعريف شامل وعام:

فيمكن تعريف الذكاء الوجداني بأنه: القدرة على إدراك الانفعالات ومضمونها والتعبير عنها بشكل دقيق وتوافقي؛ بما في ذلك قيم المشاعر وإنتاجها، التي تسهل الأنشطة الأخرى. كما يتضمن تنظيم الانفعالات لدى الفرد والآخرين، وفهم المعلومات الخاصة بالانفعالات، والقدرة على إدراك هذه البنية المعرفية في الذات والآخرين.

ويمكن تعريفه كذلك بأنه: قدرة الإنسان على التعامل الإيجابي مع نفسه ومع الآخرين بحيث يحقق أكبر قدر من السعادة لنفسه ولمن حوله.

ويعرف الذكاء الوجداني أيضا بأنه: عبارة عن مجموعة من الصفات الشخصية والمهارات الاجتماعية والوجدانية التي تمكن الشخص من تفهم مشاعر وانفعالات الآخرين، ومن ثم يكون أكثر قدرة على ترشيد حياته النفسية والاجتماعية انطلاقاً من هذه المهارات.

ومن التعريفات السابقة يتبين أن الذكاء الوجداني يختلف عن الذكاء العقلي، ويتضح ذلك من خلال تحديد مفهومي الذكاء العقلي والانفعال.

وعليه يعرف الذكاء العقلي بأنه مجموعة من القدرات العقلية التي تمكن من اكتساب المعرفة والتعلم وحل المشكلات.

فأما الانفعال Emotion، فيعرفها معجم السمات الوجدانية بأنه «حالة وجدانية حادة وفجائية، مضطربة وغير منظمة، تختلف عن الحالة الاعتيادية للفرد، تتسم بالاستثارة والتنبيه والتوتر والرغبة في القيام بعمل ما، وللانفعال مكونات داخلية (فسيولوجية وشعورية ومعرفية)، وخارجية (سلوكية مثل تعبيرات الوجه)، وتعتمد هذه الحالة على مواقف معينة، وتستثير ردود أفعال الفرد المتطرفة والتي توجه عادة نحو مصدر الانفعال، ويشمل الانفعال بوجه عام مشاعر قوية أو حالات وجدانية إيجابية أو سلبية». كما أن الانفعالات تساعد الفرد على التكيف أمام مواقف الحياة ذات الصلة بالبقاء.

وأما الذكاء الانفعالي فهو يجمع بين الجانب العقلي والجانب الانفعالي للفرد، ويقدم «ماير وسالوفي»  (1997) تعريفاً للذكاء الوجداني، يجمع بين فكرة أن الانفعال يجعل تفكيرنا أكثر ذكاءً، وفكرة التفكير بشكل ذكي نحو حالاتنا الانفعالية، ويركز على القدرة على إدراك الانفعالات وتنظيمها، والتفكير فيها، وهو أن «الذكاء الوجداني يشمل القدرة على إدراك الانفعالات بدقة، وتقييمها، والتعبير عنها، والقدرة على توليد الانفعالات، أو الوصول إليها عندما تيسر عملية التفكير، والقدرة على فهم الانفعال والمعرفة الوجدانية، والقدرة على تنظيم الانفعالات بما يعزز النمو الوجداني والعقلي».

إن التعريف المشار إليه يعرف الذكاء الوجداني من خلال مجموعة من القدرات المنفصلة، ولكنها متجانسة مع بعضها، بمعنى أن الفرد قد يكون عالي القدرة في فهم انفعالات الآخرين من خلال حساسيته في قراءة إشارات الوجه غير اللغوية، والتمييز بين التعابير الصادقة وغير الصادقة مثلاً، ولكنه منخفض القدرة في تنظيم انفعالاته والتعبير عنها. ومفهوم القدرة يشير إلى توقع انتشار الأفراد اعتدالياً على طرفي منحنى القدرة.

وتجدر الإشارة إلى أن هناك ترجمات عربية عدة لاصطلاح Emotional Intelligence، فإلى جانب «الذكاء الانفعالي»، هناك «الذكاء الوجداني»، و»ذكاء المشاعر». ورغم أن الترجمة الحرفية للمفهوم هي الذكاء الانفعالي، فإن هذه الترجمة قد يساء فهمها من طرف أنصار حصر اصطلاح «انفعال» في جوانبه غير السارة أو المرضية، كالخوف والحزن والغضب، وحصر اصطلاح «العواطف» في جوانب الانفعالات السارة، كالسرور والحب؛ لذا جرى التوافق على تحديد مصطلح «الذكاء الوجداني» لشموليته لكل الجوانب السارة وغير السارة كما قد يكون أكثر تقبلاً لدى أوساط العامة.  

الذكاء الوجداني يمكن تعلمه واكتسابه

إن مسألة القدرة على اكتساب الذكاء الوجداني من عدمه مازالت تثير الكثير من الجدل في الأوساط العلمية والأكاديمية الفلسفية المختلفة، لكن معظم البحوث العلمية الأخيرة تفيد بأن الذكاء الوجداني- بعكس الذكاء العقلي ونسبة الذكاء التقليدية- لا يخضع للوراثة ويمكن اكتسابه وتعلمه من خلال اتباع بعض الأساليب التي تساعد على تنمية هذه الخاصية وتقويتها في الشخصية.

ومن النصائح التي ينصح بها العلماء في هذا الصدد لمساعدتنا في الحصول على معدل عال من الذكاء الوجداني، أن نحافظ دائماً على مشاعر طيبة عند التعامل مع الآخرين، وأن ندرب أنفسنا جيداً على مواجهة الأزمات بهدوء، وذلك بتصدينا للخلافات التي يمكن أن تثور عندما نواجه مختلف التأثيرات السلبية لبيئة اجتماعية تعوق قدراتنا على النمو السليم والصحة النفسية.

أهمية الذكاء الوجداني

1 - يلعب الذكاء الوجداني دوراً مهماً في توافق الطفل مع والديه وإخوته وأقرانه وبيئته بحيث ينمو سوياً ومنسجماً مع الحياة، كما أنه يؤدي إلى تحسين كفاءة التحصيل الدراسي ورفعها.

2 - يساعد الذكاء الوجداني على تجاوز أزمة المراهقة وسائر الأزمات بعد ذلك مثل أزمة منتصف العمر بسلام.

3 - يعتبر الذكاء الوجداني عاملاً مهماً في استقرار الحياة الزوجية فالتعبير الجيد عن المشاعر وتفهم مشاعر الطرف الآخر ورعايتها بشكل ناضج، كل ذلك يضمن توافقاً زواجياً رائعاً.

4 - الذكاء الوجداني وراء النجاح في العمل والحياة، فالأكثر ذكاءً وجدانياً محبوبون ومثابرون وتوكيديون، ومتألقون وقادرون على التواصل والقيادة ومصرون على النجاح.

فالشخص الذي يتسم بدرجة عالية من الذكاء الوجداني، يتصف بقدرات ومهارات تمكنه من أن:

• يتعاطف مع الآخرين خصوصاً في أوقات ضيقهم.

• يسهل عليه تكوين الأصدقاء والمحافظة عليهم.

• يتحكم في الانفعالات والتقلبات الوجدانية.

• يعبر عن المشاعر والإحساسات بسهولة.  

• يتفهم المشكلات بين الأشخاص ويحل الخلافات بينهم بيسر.  

• يحترم الآخرين ويقدرهم.  

• يظهر درجة عالية من الود والمودة في تعاملاته مع الناس.

• يتمتع بتقدير ومحبة كل من يعرفه.  

• يتفهم مشاعر الآخرين ودوافعهم ويستطيع أن ينظر إلى الأمور من وجهات نظرهم.

• يميل للاستقلال في الرأي والحكم وفهم الأمور.  

• يتكيف مع المواقف الاجتماعية الجديدة المختلفة بسهولة.

• يواجه المواقف الصعبة بثقة.

• يشعر بالراحة في المواقف الحميمة التي تتطلب تبادل المشاعر والمودة.

• يستطيع أن يتصدى للأخطاء والامتهان الخارجي.

كيفية تحسين النضج الوجداني

تعتبر رحلة تطوير النضج الوجداني رحلة طويلة تبدأ من الطفولة المبكرة وتستمر حتى آخر لحظة في الحياة، ومن التوصيات المهمة لتحسين النضج الوجداني:

1 - الوعي بالذات: حاول أن ترى نفسك كما هي لا كما يجب أن تراها، ستواجهك بعض المصاعب، حيث إن الدفاعات النفسية (مثل الكبت Repression والإسقاط Projection والإنكار Denial والتبرير Rationalization) ستحول بينك وبين هذه الرؤية الموضوعية، لذلك ننصحك بأن تسأل الناس المخلصين الصادقين من حولك أن يحدثوك عن نفسك بصراحة، وتقبل رؤيتهم حتى لو لم تعجبك. تدرب جيداً وطويلاً على قراءة ما يدور بداخلك من أفكار وما يختلج صدرك من مشاعر.

2 - تقبل الذات: وتقبل الذات لا يعني موافقتها على ما هي عليه دائماً إنما هي مرحلة مهمة يبدأ منها التغيير للأفضل.

3 - لا تحاول السيطرة على الآخرين: فبدلاً من السيطرة والتحكم في الآخرين حاول أن تتعاون معهم، وعندما يكون هناك صراع أو خلاف مع طرف آخر حاول أن تصل إلى حل يربح ويرضي الطرفين، ولا تحرص على أن تكون أنت الرابح الوحيد دائماً.

4 - كن مستعداً لتغيير صلاتك الاجتماعية: تجنب كل ما يمكن أن يؤثر فيك سلباً، حتى لو كان صديقاً لك، واحرص على أن تعرض نفسك للناس وللمواقف الإيجابية.

5 - ابحث عن هدف سامٍ ومعنى لحياتك: ونقصد هنا ذلك المعنى الذي يعطيك منظوراً واسعاً للحياة، أي ليس ذلك المعنى المحدود الضيق الذي لا يتجاوز حدود اهتمامك الذاتي، فإذا كان لديك هذا المعنى الكبير الممتد للحياة فإن أهدافك ستكون عظيمة ومحفزة لقدراتك لكي تنمو بشكل كبير ومستمر، وعلامة نجاحك في الوصول إلى هذا المعنى السامي هي الشعور الثري والممتلئ بالحياة، الحياة التي لا تقتصر على حياتك فقط بل تشمل أيضاً حياة الآخرين، وعمارة الكون، ذلك الشعور الجميل الذي لا يحس به إلا من وصلوا إلى النضج الوجداني سعياً إلى وجه الله الذي امتدح صفات النضج الوجداني في رسوله صلى الله عليه وسلم قائلاً:

(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: 159)

وكاستنتاج لما سبق، يمكن القول، إن الذكاء الوجداني يمكن أن يساهم في إقامة علاقات حسنة مع الأفراد، وفي الحفاظ عليها، كما يمكن أن يساعد الأشخاص أيضاً على إدارة علاقاتهم الغرامية.

من جهة أخرى، قد لا يكون الذكاء الوجداني إيجابياً دائماً، فالمقدرة على إدراك ما يشعر به الآخرون يمكن أن يستغلها المحتالون في التلاعب بضحاياهم، كما لا تزال ميادين كثيرة للبحث تنتظر الاستكشاف، خصوصاً من حيث عدم الانتفاع بهذه الخاصية في كل المجالات، إذ نجد الكثير من السياسيين مثلاً يميلون للانتفاع بذكائهم الوجداني، ويتمتعون بموهبة استثنائية في استخدام انفعالاتهم، بينما تعتبر حياتهم الخاصة بائسة تماماً.