تأملات سجينة: عن نيلسون مانديلا

نشر في 12-12-2013
آخر تحديث 12-12-2013 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت يُقال إن السجن يبث في نفس السجين شعوراً بالعجز والضعف، ولكن الحقيقة الثابتة في الحياة بالنسبة إلى سجين سياسي، حتى لو كان مضرباً عن الطعام، هي عكس ذلك تماما، فبوصفي سجينة، اضطررت اضطراراً إلى التركيز على ما هو أساسي نحو نفسي ومعتقداتي السياسية وبلدي؛ لذا فأنا أكاد أستشعر حضرة النساء الجسورات والرجال الشجعان، الكبار والصِغار، الذين احتشدوا في كييف وغيرها من المدن الأوكرانية للدفاع عن أحلامهم في مستقبل ديمقراطي أوروبي، ففي السجن، تصبح آمالك وأحلامك هي واقعك الخاص.

وأنا على يقين من أن نيلسون مانديلا كان سيفهم مشاعري ويوافقني عليها، فربما أبعده نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا لمدة تقرب من الثلاثة عقود، ولكن في احتجاجات سويتو الكبرى والمظاهرات الأخرى التي طالبت بالحرية والمساواة، كان شباب جنوب إفريقيا الشجعان يتطلعون دوماً إلى مثاله ويستشعرون وجوده.

وفي مختلف أنحاء العالم، يحتفل أغلب الناس الآن عن حق بالمهابة النبيلة الرقيقة التي قاد بها مانديلا جنوب إفريقيا إلى المخرج من التيه السياسي، حتى هنا، خلف قضبان السجن وتحت المراقبة المتواصلة من ذلك النوع الذي جربه لفترة طويلة، أستطيع أن أستحضر دفء ابتسامته العريضة وعينيه المرحتين، وتلك القمصان الملونة على طريقة هاواي التي كان يرتديها بقدر عظيم من الثقة في النفس. ولا يسعني إلا أن أعرب عن إعجابي بالتزامه العنيد- والمراوغ أحيانا- بعملية المصالحة التي أنقذت بلاده من الحرب العرقية التي رأى أولئك الذين رفضوا قبول نهاية حكم الأقلية البيضاء أنها حتمية، ولكن كم كانوا مخطئين، وكم كان الإنجاز الذي حققه مانديلا معجزاً في جعل حتى أشد أعدائه عنداً وتصلباً يشعرون بارتياح في مرحلة ما بعد الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.

ولكن هنا في هذا المكان، ليس مانديلا رجل الدولة هو الذي يمس روحي ويشغل مخيلتي، بل إن ملهمي هو مانديلا السجين، مانديلا جزيرة روبن الذي تحمل 27 سنة وراء القضبان (18 منها على صخرة في جنوب المحيط الأطلسي)، ثم خرج رغم ذلك سالم الروح ممتلئاً برؤية غامرة لجنوب إفريقيا المتسامحة، الأمة التي تحررت لكي تحتضن حتى مهندسي نظام الفصل العنصري والمنتفعين منه.

فلم تكن عمليات التطهير السمة المميزة لانتهاء حكم البيض، ولم تكن هناك ملاحقة للمعارضين أو عدالة استثنائية، بل إن كل ما طالب به مانديلا كان الكشف عن حقيقة ما حدث في الماضي، ومن خلال الإبداع الفريد الذي تجسد في لجنة الحقيقة والمصالحة، أقام مانديلا الجسر الوحيد العملي بين إرث بلاده العنصري وحاضرها ومستقبلها المتعدد الأعراق- تركيبة من العبقرية السياسية والحكمة الإنسانية التي لا يملكها إلا أعظم الزعماء.

لقد نجح مانديلا في إرشاد جنوب إفريقيا إلى الحرية لأنه كان قادراً على رؤية مستقبلها بشكل أكثر وضوحاً من أولئك الذين عاشوا سنوات الفصل العنصري خارج أسوار السجون، والحق أنه كان يمتلك ذلك الوضوح النادر للرؤية الأخلاقية التي قد يغذيها وجود المرء في السجن- وربما ليس كمثل أي بيئة أخرى.

وكان السجن هو الذي أكسب ألكسندر سولجينيتسين أيضاً وضوح الرؤية. يقول سولجينيتسين في كتابه أرخبيل الجولاج: "... ورويداً رويدا، تبين لي أن الخط الفاصل بين الخير والشر لا يمر عبر الدول، ولا بين الطبقات أو الأحزاب السياسية- بل يمر مباشرة خلال قلب كل إنسان وعبر قلوب البشر جميعا. وهذا الخط يغير موضعه... فحتى داخل القلوب التي يغمرها الشر، يظل هناك رأس جسر صغير من الخير قائما. وحتى داخل أظهر القلوب، تظل هناك مضغة صغيرة من الشر لم تجتث".

إن امتلاك القدرة على إدراك الكيفية التي تعمل بها النفس البشرية بدرجة من الوضوح لا ينعم بها أغلب البشر يُعَد من الهبات القليلة التي قد يمنحك السجن إياها، فعندما تضطر إلى التأمل في ضعفك، وعزلتك، وخسائرك (وقضيتك التي تبدو خاسرة)، تتعلم كيف تنظر بقدر أعظم من العناية إلى القلب البشري- قلبك وقلب سجانك.

وقد جسد مانديلا هذه الهبة النادرة، فَمَن غيره كان سيوجه دعوة شخصية إلى أحد سجانيه على جزيرة روبن لحضور حفل تنصيبه كأول رئيس منتخب ديمقراطياً لدولة جنوب إفريقيا؟

بطبيعة الحال، كانت وراء روح مانديلا السخية الكريمة شخصية من فولاذ، فقد تحمل سجنه في سبيل قضيته، وتحمل عذاب المعاناة التي فُرِضَت على أسرته، غير أنه رغم كل ذلك لم ينكسر ولم يستسلم للغضب الذي كان يستنزف أغلب البشر وينهكهم.

وكالعادة، تنبئنا الكلمات التي وصف بها مانديلا يوم نيله لحريته عن حسن إدراكه وتفهمه لكل هذا: "بينما كنت أخطو إلى خارج زنزانتي نحو البوابة التي ستقودني إلى الحرية، أدركت أنني لو لم أترك مرارتي ومقتي خلفي، فإنني كنت سأظل سجينا حتى الآن". وكما أدرك مانديلا في زنزانته أن نظام الفصل العنصري سيسقط حتماً ذات يوم، فأنا أعلم في عزلتي أن انتصار أوكرانيا في نهاية المطاف كدولة ديمقراطية أوروبية قادم لا محالة.

Yulia Tymoshenko يوليا تيموشينكو

* رئيسة وزراء أوكرانيا سابقا، وهي الآن من زعماء المعارضة.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top