«نساء الخلفاء الأمويين» لبثينة بن حسين... صورة التاريخ المغايرة
صدر أخيراً عن منشورات الجمل كتاب «نساء الخلفاء الأمويين» للكاتبة والباحثة التونسية بثينة بن حسين.
يقوم بحث بثينة بن حسين «نساء الخلفاء الأمويين» على جمع ما جاء منثوراً من الأخبار في كتب التاريخ والأدب مثل «تاريخ الرسل والملوك» للطبري و{أنساب الأشراف» للبلاذري و{العقد الفريد» لابن عبد ربه و{كتاب الأغاني» لأبي فرج الأصفهاني» و{تاريخ دمشق» لابن عساكر، وغيرها. وقد أخضعت الباحثة هذه الأخبار للنقد التاريخي لتستمد منها مادة بحثها، ولتخرج من ذلك بصورة مغايرة لما بات سائداً حول وضع المرأة من خلال ما كان لنساء الخلفاء الأمويين من أدوار في مجالات السياسة والعلوم الدينية الناشئة، في الشعر والأدب.وقد ميزت الباحثة بين دور زوجات الخلفاء، وهن عربيات، ودور الجواري من غير العربيات. فقد كان الخلفاء الأمويون لا يتخذون الزوجات إلا من العربيات ولم يكونوا يتقيدون بقاعدة الحد من عدد الزوجات إلى أربع، حيث بلغ عدد زوجات عبد الملك بن مروان مثلاً خمس عشرة زوجة. وتمثل هذه الظاهرة امتداداً للعادات القبلية في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وهي عادات مرتبطة بمتطلبات الغزو من جهة، وقواعد النسب من جهة أخرى، حيث كانت موازين القوى بين القبائل تخضع لعدد من المحاربين من أبناء القبيلة وانتمائهم إليها عبر آبائهم دون أمهاتهم. فالإكثار من عدد الزوجات من القبيلة أو من خارجها، للتحالف بالمصاهرة أو للتفوق بالسبي، كان عاملاً أساسياً في تفوق القبيلة العددي. ولكن تعدد الزوجات لم يكن يترتب عنه حجب المرأة أو منعها من المشاركة في الحياة العمومية. فزوجات الخلفاء، كما تبرزه هذه الدراسة، لم تكنّ محجبات. وكانت المرأة منهن تلقب بالبرزة التي لها حق البروز للرجال لمقابلتهم ومحاورتهم من دون حجاب، وكان لهن من الحرية ما سمح لهن بمشاركة الرجال والتفوق عليهم في شتى المجالات، ولم تتخلف الجواري من غير العربيات عن زوجات الخلفاء في المجالات نفسها.
سياسة وعلميقدم البحث أمثلة كثيرة عن الأدوار التي أدتها زوجات الخلفاء وجواريهم. ومن بين من اشتهرن بدورهن في مجال السياسة تذكر لنا أم خالد، زوجة الخليفة الأموي الثاني يزيد ابن معاوية التي كان تأثيرها حاسماً في تولية ابنها معاوية الثاني خليفة لأبيه. كذلك اشتهرت عاتكة ابنة يزيد بن معاوية وزوجة عبد الملك ابن مروان، التي بلغ نفوذها حد استقدام الحجاج بن يوسف الثقفي لتوبيخه والحط من شأنه رغم ما كان له من تأثير على زوجها مذكرة إياه بأصوله ومشيرة عليه بلزوم حدوده كعامل لبني أمية.أما في مجال تلقين العلوم الإسلامية الناشئة، خصوصاً في رواية الحديث، فقد برزت ميسون بنت يحدل الكلبية، زوجة معاوية ابن أبي سفيان، التي روى عنها محمد بن علي فعمار الدهني فالطبري، وأم كلثوم بنت عبدالله بن عامر بن كريز، زوجة يزيد بن معاوية، وعاتكة بنت يزيد بن معاوية، زوجة الخليفة عبد الملك بن مروان، وقد روى عنها مهاجر ابن عمر ابن مهاجر الأنصاري، وأم البنين بنت عبد العزيز بن مروان، أخت الخليفة عمر ابن عبد العزيز، وقد اشتهرت، مع روايتها للحديث ومكانتها كزوجة للخليفة الوليد ابن عبد الملك. ابن عساكرولم يقتصر دور تلقين العلوم الدينية ورواية الحديث على زوجات الخلفاء، بل كان للجواري دور في ذلك مثل ما شهر عن مية مولاة معاوية ابن أبي سفيان التي كانت محدثة ذات صيت في الشام فضلاً عن دورها كحاجبة لنفس الخليفة. ومن رواة الحديث من الجواري يذكر ابن عساكر ريا التي عاشت قرابة المئة سنة، وعايشت خلفاء بني أمية كلهم من معاوية إلى هشام بن عبد الملك، وكانت بسبب ذلك مرجعاً في رواية أخبار خلفاء بني أمية. وقد تسبب لها ذلك في قتلها من العباسيين حين آلت إليهم الخلافة ليمنعوا روايتها لمناقب خصومهم.وممن اشتهرن برواية الحديث، نوّار جارية الوليد بن يزيد التي كان يلبسها لباس الرجال ويرسلها لتؤم صلاة الفجر عوضاً عنه. وفي مجال الأدب، اشتهرت أم البنين إلى جانب روايتها للحديث بشعرها ومحاوراتها الأدبية مع الشعراء. كما كان لأم حكيم، زوجة هشام بن عبد الملك، صيت في مجال الشعر والأدب. وفي هذا المجال كذلك كان للجواري إسهامهن ومن أبرزهن سلامة القس التي اشتهرت بعشق قس لها وانقطاعه عن حياة الرهبنة لتعلقه بها.تخلص الباحثة بثينة بن حسين إلى أن وضع المرأة في ظل الدولة الأموية حافظ على ما كان لها من خطوة في الجزيرة العربية قبل الإسلام وفي عهد النبوة وخلافة المدينة حيث كان للمرأة دورها في شتى المجالات بما فيها السياسة والحروب. ولم يتدهور هذا الوضع إلا في عهد الدولة العباسية حين تقلص دور الزوجات في الحياة العامة لصالح الجواري.تكمن قيمة الكتاب في أنه ينسب ما صار ملتصقاً بالإسلام وبالحضارة العربية في علاقة بوضع المرأة، حيث تبين أن المفاهيم المتداولة في هذا الشأن ليست سوى نتاج للتطورات اللاحقة وما نشأ في ظلها من تصورات ومنظومات فقهية عقائدية كرست دونية المرأة وأقصتها من الحياة الاجتماعية وصدت في وجهها أبواب المشاركة في الحياة السياسية والعلمية.