«لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من أن يكون لك حُمُر النعم". لطالما توقفت ملياً عند هذا الحديث الشريف وتفكرت في دلالاته ومعانيه.

Ad

معنى الهداية الشائع المتداول، والمتبادر أولاً إلى الذهن من هذا الحديث، هو ذلك المتمثل في هداية الناس من الكفر إلى الإسلام. لكنني آمنت دوماً بأن المراد المقصود هو ذلك المفهوم الواسع المترامي الأطراف لمعنى لفظ "الهداية"، ولهذا الأمر شواهد نجدها في أحاديث شريفة أخرى، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً".

هداية المبتعدين عن الله إليه سبحانه مجدداً، هداية السائرين في الدروب الخاطئة في الدين والدنيا إلى دروب الإحسان والبر، هداية التائهين عن الحق والصواب في كل ناحية من نواحي الحياة إلى العودة إليهما، هداية المتعثرين في حياتهم، في العمل والمنزل والعلاقات الاجتماعية، إلى سبل الرشاد وأدوات النجاح، هداية الباحثين عن النصيحة والمشورة في كل صعيد ومجال إلى ما ينفعهم، وغيرها وغيرها من أنواع الهدايات إلى النور والخير في الدنيا والآخرة تدخل جميعاً في المراد الواسع لمصطلح الهداية.

ولكن هذه الجائزة العظيمة التي جعلها الله عز وجل للجميع من عباده، والمتاحة بكل بساطة لكل عمل من أعمال الهداية المتوفرة لكل من يريدها صادقاً، والتي هي كثيرة ومتعددة ومتنوعة ولا تستلزم أن تكون على درجة عالية من الضخامة والجهد، لا تشترط إلا أن يقصدها طالبها صادقاً مخلصاً لا يريد من ورائها إلا ما عند الله، ويكفيه للفوز بها أن يهدي ولو رجلاً واحداً، بل أقل من ذلك كما سيتبين بعد سطور.

الأمر الرائع والمدهش في المسألة التعبدية عموماً أنها مرتبطة بالكيف أكثر من ارتباطها بالكم، بمعنى أنها ترتبط بإخلاص النية مع الإيمان الثابت بالله عز وجل لا بحجم العمل ومقدار العطاء. وهنا يحضرني الحديث الشهير: "اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة"، وكذلك الحديث الشريف: "بينما كلب يطيف بِرَكيَّةٍ، كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت مُوقها فسقته فغُفر لها به"، أي أن جزءاً صغيراً من تمرة، بل مجرد كلمة طيبة، يمكن لها أن تنقذ الإنسان من عذاب النار وتدخله إلى نعيم الجنة، وأن شربة ماء يقدمها لحيوان كاد يقتله العطش يمكن أن يغفر الله له بها ذنوبه ولو بلغت عنان السماء ويمحو له بها خطاياه ولو كانت ملء قراب الأرض، لا يبالي بها سبحانه، وهو ما جاء مصداقه في الحديث القدسي: "يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة".

ما أعظم هذا الدين، ويا لروعة سماحته وطيب يسره، ولكننا نحن المعسرون المتشددون على أنفسنا، الذين يفوتهم دوماً قول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا".