على رصيف فقير في أحد الشوارع المهملة في وسط القاهرة وجدت جثة الأديب السوداني الشاب محمد بهنسي ملفوفة بخرق بالية وبعض أوراق الجرائد القديمة، فقد توفي متجمداً من البرد والجوع وصقيع الشارع وجفاء الناس، بعد حياة من البؤس والتشرد، من دون غرفة تأويه أو غطاء يحميه أو رغيف خبز يقيه شر التسول.
احتل الأديب السوداني محمد بهنسي مكانة مميزة في عالم الأدب والفن، بدأ حياته فناناً تشكيلياً متفرداً، وأقام معارض فنية في السودان وفي خارجه، ولاقت روايته الأولى «راحيل» قبولا نقدياً فوصفها الناقد هوار حمدان هجو بأنها «ولادة جديدة لطيب صالح جديد».ولد بهنسي في أم درمان، السودان عام 1972 ودرس في جامعة الخرطوم. شارك في المعارض منذ كان طالباً جامعياً في السودان وفرنسا وألمانيا، من بينها: «لايت رسومات» التصوير الفوتوغرافي في قصر المهرجانات في فرنسا، مدرسة الفن في أديس أبابا، «لغة الألوان» في بون، Alfter ألمانيا بمشاركة 50 فناناً إفريقياً. سافر إلى فرنسا مطلع 2002 وهناك تزوج ابنة حاكم إحدى المقاطعات الفرنسية بحسب ما يؤكد أصدقاؤه ووفق روايته الشخصية لهم، وأنجب منها طفلا، إلا أنه سرعان ما طلق زوجته نتيجة خلافات عائلية، وعمد والد زوجته إلى ترحيله قسراً من فرنسا، فأثر الانفصال سلباً في نفسيته.عند عودته إلى الخرطوم فوجئ بوفاة والدته منذ أكثر من ثلاث سنوات من دون علمه، فعاش في عزلة ووحدة حوالى ثلاث سنوات، من ثم دعي إلى القاهرة للمشاركة في أحد المعارض التشكيلية، فسافر إلى هناك وقطن في منطقة العتبة إلى أن تدهورت أوضاعه المادية والنفسية بسبب التشرد والفقر والإحباط، فسكن الشارع، ومن ثم كانت المأساة والنهاية المفجعة.سلسلة مآسٍتعيد مأساة بهنسي إلى الأذهان سلسلة مآس واجهها مبدعون كثر أبرزهم: نجيب سرور الذي دخل مستشفى الأمراض العقلية وخرج منها هائماً على وجهه في شوارع القاهرة لا يملك فلساً، حتى مات شريداً.عاش سرور في حقبة شهدت أزهى عصور الثقافة في مصر، وعاصر شخصيات مهمة من بينها: ميخائيل رومان، عبد الرحمن الشرقاوي، نعمان عاشور، سعد الدين وهبة، حمدي غيث، كرم مطاوع، سعد أردش، محمود أمين العالم، عبد القادر القط، رجاء النقاش، فاحتضنته حياه ثقافية رائعة عند عودته من بعثة له في موسكو، وكان مؤلفاً وممثلا ومخرجاً وناقداً. أجاد سرور إلقاء الشعر خصوصاً شعره، واجتمعت له ملكة الصوت الجهير العميق، مع قدرة على التحكم بمخارج الألفاظ، ولم يكن يقرأ الشعر بل يعيشه، مؤدياً بصوته أدوار شخصيات مختلفة، إلا أنه بعد وفاة عبد الناصر فصل من عمله وتشرد وجاع، وكان مريضاً، مفلساً، وحيداً في أعقاب سفر زوجته إلى موسكو لرعاية ولديهما وتعليمهما بعدما سدت أبواب العيش أمام الأسرة.كتب كوميديا سوداء عن أيلول الأسود وأخرجها، فمنعت الرقابة عرضها، وقبضت عليه الشرطة شارداً رثّ الثياب، فعرف عن نفسه لأفرادها بأنه الشاعر نجيب سرور، الممثل والمخرج المسرحي والأستاذ المفصول من أكاديمية الفنون، عندها أودعوه مستشفى الأمراض العقلية، مع علمهم بأنه صادق، للتخلص منه كشاعر معارض سليط اللسان، وكان بدأ كتابة رباعيات «أميات نجيب سرور» وإذاعتها، يهجو فيها السلطة والمحيطين به. ظل هائماً على وجهه في الشوارع حتى فوجئ الوسط الثقافي ذات صباح (27 أكتوبر 1978) بخبر موته في إحدى الصفحات الداخلية لجريدة «الأهرام» وتضمن كلمات قليلة: «توفي من ثلاثة أيام الشاعر نجيب سرور عن عمر يناهز 46 عاماً».قائمة طويلةأدباء كثر انتحروا تحت وطأة اليأس والعجز، على غرار: الشاعر اللبناني خليل حاوي الذي أصابه حزن عميق وساده القنوط عندما اجتاح الجيش الإسرائيلي لبنان وحاصر بيروت (1982)، فأطلق الرصاص على نفسه.خليل حاوي صاحب مسيرة خصبة أثرت المكتبة العربية بالإصدارات من بينها: «رسائل الحب والحياة»، ودواوين: «نهر الرماد»، «الناي والريح»، «بيادر الجوع» «الرعد الجريح».أما الأديبة المصرية أروى صالح، فأحد أعلام الحركة الطلابية في أوائل السبعينيات في جامعات مصر، تخرجت في كلية الآداب- جامعة القاهرة، ولها كتابات في صحف ومجلات مهمة، ضاقت بالحياة فانتحرت بإلقاء نفسها من الطابق العاشر في صيف 1997.من أعمالها: «المبتسرون» الذي فجر ضجة، إذ ضمنته تحليلاً لحركة جيل السبعينيات، ووجهت فيه انتقاداً لاذعاً إلى نفسها. تميّز الكتاب بجرأة وقدرة على التحليل، وكان في أوج صعوده في المجالات المختلفة. «سرطان الروح»، يضم خلاصة وافية عن أعمالها غير المنشورة حول الانعزالية، الشرود في أحلام اليقظة.في اللائحة نفسها تحضر الدكتورة درية شفيق، حائزة دكتوراه من باريس، مؤسسة أول حزب نسائي في مصر، أصدرت مجلات عدة، قادت ثورات وتظاهرات مطالبة بتحرير المرأة، ثم كانت نهايتها بأن ألقت نفسها من شقتها في الطابق السادس.وكان الكاتب إسماعيل أدهم يجيد أكثر من لغة، وله دراسات وكتب وبحوث، وضع حداً لحياته بعدما كره الحياة التي تنتهي إلى لا شيء، حسب ما كتب قبل الرحيل. ففي 23 يوليو 1940 فوجئت الأوساط العلمية والثقافية بخبر انتحار الدكتور إسماعيل أدهم بإلقاء نفسه في البحر على شاطئ الإسكندرية، حيث وجدت جثته، ووجدت في ملابسه رسالة تؤكد انتحاره بسبب سأمه من الحياة.مرض ومرارة تكتظ قائمة الأدباء والكتاب الذين تساقطوا على رصيف الإبداع من دون أن تمتد إليهم يد المساعدة لا سيما من الدولة، بعدما كانت مسيرتهم مع الأدب مكابدة انتهت بالرحيل والموت، من بينهم: الأديبة نعمات البحيري (من جيل الثمانينيات) توفيت بعد معاناة طويلة مع مرض السرطان، ومرارة عميقة لتجاهل علاجها، سواء على نفقة اتحاد الكتاب الذي تنتمي إليه أو الدولة، ظلت تقاوم اعتلال الروح لتقدّم رؤيتها إلى العالم كتابة وحياة.كذلك أمل دنقل الذي أصيب بالسرطان (1979) ورفضت الدولة تحمل مصاريف علاجه، ولا ننسى الشاعر أسامة الدناصوري، الأديب المسرحي ألفريد فرج، والناقد فاروق عبد القادر.
توابل
نهايات الأدباء المأساوية... مشرّدون هائمون جائعون
25-12-2013