في الدورة السابعة عشرة لـ {مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة} (3 – 8 يونيو 2014) شاهدت العرض الأول في منطقة الشرق الأوسط للفيلم التسجيلي القصير {أم أميرة} (24 دقيقة /2013)، إخراج ناجي إسماعيل، وتعاطفت مع هذه السيدة المكافحة التي لم تكسرها الهموم، و بروح {الأم شجاعة} واجهت بطلة مسرحية الكاتب الألماني المعروف بيرتولد بريخت (10 فبراير 1898 – 14 أغسطس 1956) قسوة الحياة، والزمن الصعب، ولم تتخل يوماً عن ثقتها بنفسها، مثلما لم تنجح في مداراة سحابة الحزن التي تلف وجهها البشوش!

Ad

  {أم أميرة}، بائعة تخصصت في بيع شرائح {البطاطا المقلية} على مقربة من مقهى شهير في وسط العاصمة المصرية، وتمضي نصف نهارها في الإعداد لعملها الذي يبدأ مع ساعات الفجر، وتتعرض لمطاردات وتحرشات شرطة المرافق، التي تُفرج عنها بعد سداد الغرامة أو في حال تعاطف أحد الضباط معها، لكنها تؤمن أن ما تمر به من متاعب لا يُعد شيئاً مقارنة بأزمة زوجها، الذي اعتلت صحته فما كان من الشركة التي يعمل فيها سوى أن طردته، تطبيقاً لسياسة الخصخصة، واكتفت بأن تمنحه مكافأة هزيلة، ومصيبتها في ابنتها {أميرة} المصابة بمرض خطير في القلب فشلت كل محاولات علاجه، ومع هذا ما زال الأمل يراودها في شفاء فلذة كبدها!

  جاء اختيار المخرج ناجي إسماعيل لمقطع {يا حبيبي تعالى ألحقني شوف اللي جرالي} من أغنية المطربة أسمهان ليلخص مأساة {أم أميرة}، وهو النهج الذي تكرر مع مقطع {ثم أصغي والحب في مقلتينا} من أغنية {هذه ليلتي} لأم كلثوم، التي كثفت الحالة الوجدانية لامرأة تكنّ مشاعر دافئة للجميع، وتتعامل بروح محبة طوال الوقت، رغم الأهوال اليومية التي تواجهها، فهي التي تجر وترفع وتُركّب {أنبوبة البوتاغاز}، وتقشّر كميات ضخمة من البطاطا، وتتفاوض مع تاجر الجملة، وتحمل ابنتها المريضة على كتفيها إلى عيادة الطبيب، بمعنى أنها امرأة بألف رجل، ومثلما تملك سمعة طيبة كبائعة تختار أجود أنواع البطاطا، وتأبى أن تبيع زبائنها شرائح مجمدة، وتقاتل بشراسة لتوفر لابنتها نفقات العلاج من دون أن تريق ماء وجهها!

  قد يستغرب المرء أن يجد شيئاً من الطرافة في ظل مأساة أطلت برأسها مع أول ظهور لـ {أم أميرة}، لكن عندما نعلم أن آلام المخاض هاجمت الأم في القطار، وأنها أنجبت ابنتها {أميرة} فور وصولها إلى محطة {الجيزة}، فمن المؤكد أن الابتسامة ستتسلل إلى الوجه، غير أن الأمر لن يدوم طويلاً لأن المتابع للفيلم سيفاجأ بأن الموت غيّب {أميرة} بعد لقطة عامة للقاهرة، لا ندري إذا كان المخرج استعان بها ليُحمّل أهلها المسؤولية أم يناهض صمتها وتخاذلها!

  ماتت {أميرة}، واختزل المخرج الشاب الموقف برمته في لقطة عامة للسطوح، الذي تسكنه  {أم أميرة} وعائلتها، وقد امتلأ بالجلابيب  السوداء، في إيحاء بموت الفتاة، لكن هذه البلاغة السينمائية، في الاعتماد على الصورة وحدها، تراجعت كثيراً مع عودة {أم أميرة} إلى العمل مع أذان الفجر، وبدلاً من القطع عليها، بظهور عناوين النهاية مباشرة، يقع المخرج، والفيلم، في دائرة الثرثرة والتطويل؛ إذ نرى  المرأة وهي تقلي الشرائح في إناء الزيت المغلي، وتلبي طلبات الزبائن بالوجه البشوش نفسه، لكن المشهد فقد معناه، بعدما تخطى نقطة الذروة، وبدا خارج السياق تماماً؛ إذ كان يكفي  أن نراها في مكان عملها، بينما يتردد صوت أذان الفجر، لنعرف أن {أم أميرة} أيقنت أن الحياة لا بد من أن تستمر، وأنها مُطالبة بأن تتجاوز أحزانها، ووقتها كانت البلاغة ستكتمل، والثرثرة ستختفي، وهو ما لم يفعله المخرج لسبب أجهله، وفي نهج مغاير لكل ما حرص عليه طوال مدة الفيلم، الذي اكتسب أهميته من موضوعه، أو بالأحرى مأساة بطلته، ولم نلمح فيه البصمة الإبداعية التي تضع أيدينا على الموهبة الفنية للمخرج!

  غياب اللمسة الإبداعية السينمائية، وطغيان الموضوع، كانا سبباً، في ما أظن، في تجاهل لجنة التحكيم الدولية لمسابقة الأفلام التسجيلية في الدورة السابعة عشرة لـ {مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة}، فيلم {أم أميرة}، في حين منحه مركز وسائل الاتصال الملائمة من أجل التنمية (act)‏، أحد المراكز الاستشارية التي تعمل في مجال حقوق المرأة وتمكينها اقتصادياً، والدفاع عن حقوقها وتوعيتها، جائزة أفضل فيلم تسجيلي قصير، وتبلغ قيمتها المالية ألف دولار أميركي، ونوهت في حيثياتها إلى {نجاحه في التعبير عن قضايا المرأة وهمومها}. وفي الأحوال كافة، يستحق المخرج ناجي إسماعيل التنويه ثم الإشادة لاهتمامه بهذه المرأة، التي تمثل شريحة عريضة من المجتمع المصري، ولفرط حماسته أنتج الفيلم على نفقته الخاصة، عبر شركته {رحالة}.