ونحن نحتفل بأعيادنا الوطنية تلح على الخاطر بعض ذكريات تلك الأيام الحالكة السواد، وكأنها زنجي التحف عباءة سوداء، ففي يوم الخميس الثاني من أغسطس عام "1990" ارتكب رئيس النظام العراقي السابق جريمة العصر بحق جار كان له حليفا عندما تخلى عنه الحلفاء، كان له صديقا صدوقاً، وقف معه في وقت محنته.

Ad

 ولكن للأسف هذه الأعمال النبيلة زرعت في أرض "سبخة"، فلم تثمر إلا الشر والبغض والكراهية، فكان جزاؤنا منه جزاء سنمار، فتسلل في جوف الظلام كما يفعل السراق لاحتلال بلد آمن وترويع أهله، فسرق ونهب ودمر وقتل وأسر أهله دون مراعاة لحرمة دين أو حرمة جيرة، ولكن كما يقال جولة الباطل ساعة وجولة الحق إلى قيام الساعة.

 فوقفت الكويت بقاصيها ودانيها ترفض هذا العمل الهمجي متمسكة بأرضها ونظامها الذي ارتضاه الأجداد منذ أكثر من أربعة قرون، فغدا هذا النظام متجذراً في نفوسهم وأفئدتهم، فاجتمع حولهم كل أحرار الدنيا، وما هي إلا أشهر سبعة حتى أشرقت شمس الحرية على أرضنا وسطعت في سماء الكويت نجوم النصر وخرج الغازي مدحوراً مذموماً يجر أذيال الخيبة والندم.

في ظل ذلك الاحتلال البغيض عانت الكويت وأهلها ألواناً من الذل والشقاء، ومع ذلك فقد كان أهل الكويت سواء في الداخل أو في الخارج يشعرون بقوة في نفوسهم تفوق قوة تلك الجيوش الغازية.

من ذكريات تلك الأيام بالتحديد في مساء اليوم السابع عشر من يناير عام 1991، أي في اليوم الأول لبداية عاصفة الصحراء الجوية، وبينما كنا في لقاء مع بعض الكتاب والصحافيين بمقر البعثة في جمهورية الجزائر قامت مجموعة من جنسيات عربية باقتحام السفارة متسلحة بأنواع من العصي والقضبان الحديدية والحجارة، وعندما بدأت تلك المجاميع بالصعود إلى الدور الثاني، حيث كنا نجلس في مكتبي قام الأخ العزيز رياض الخلف، وهو من الجنسية السورية وكان ولا يزال يتولى مسؤولية الشؤون الإعلامية بسفارة دولة الكويت في الجزائر، بسحبي من يدي بقوة، وأدخلني إلى غرفة صغيرة بجانب مكتبي، وقام بقفل الباب وأخذ المفتاح معه.

 بقيت في تلك الغرفة بعض الوقت، وبعدها جاء الأخ رياض وفتح الباب فاتجهت مباشرة إلى مكتبي، فيا هول ما رأيت؛ تدميرا وتكسيرا لكل شيء طالته أيديهم الآثمة بأسلوب يدل على حقد وكره دفينين، فرفعت صور سمو الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح، وسمو الأمير الوالد الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح رحمهما الرحمن برحمته وأسكنهما فسيح جنانه، وقد حاول المقتحمون تكسيرها وتمزيقها.

قمت بعد ذلك بالاتصال بالسيد العربي بالخير مدير عام ديوان رئاسة الجمهورية الذي أمر بأن تقوم إحدى عربات الجيش بحماية مجمع السفارة الذي يشتمل على مقر السفارة وسكن رئيس البعثة وأعضائها، بعد مضي بعض الوقت من حادثة الاقتحام والتكسير تلقيت اتصالاً هاتفياً من سمو الشيخ ناصر المحمد الأحمد الصباح حفظه الله من مدينة "الطائف"، وكان يومها يتولى منصب وزير دولة للشؤون الخارجية، وذلك للاطمئنان على أعضاء السفارة مع الطلب بأخذ الحيطة والحذر في تحركاتنا في ظل تلك الأوضاع غير المريحة.

بعد أيام من التحرير وفي بداية شهر مارس من عام 1991 وفي أمسية أحد الأيام تلقيت اتصالاً هاتفياً من السيد محمد درويش العرادي رحمه الله مدير المراسم الأميرية في ذلك الوقت، حيث أبلغني بأن هناك برقية عاجلة في السفارة تتضمن تعليمات أميرية يرجى تنفيذها بسرعة، ذهبت إلى مقر السفارة الملاصق للسكن، حيث وجدت برقية واردة من السفارة الكويتية في الرياض، وتحمل توقيع الأخ الفاضل سليمان ماجد الشاهين وتتضمن الإفادة بأنه بناء على أوامر سيدي أمير البلاد يرجى مغادرة جمهورية الجزائر بأسرع وقت دون إبلاغ السلطات المختصة، مع إبلاغ السفارة في الرياض عن الجهة التي ننوي التوجه إليها مع العائلة، وذلك لعدم إمكانية العودة للبلاد في ذلك الوقت المبكر للتحرير.

في اليوم التالي غادرنا الجزائر بشكل نهائي دون إحاطة السلطات المختصة بذلك متوجهين إلى لندن حيث قامت السفارة هناك بترتيب السكن.

في الشهر السادس من عام 1991 قررنا العودة إلى الكويت وعند ووصولنا إلى أجواء الكويت قام قائد طائرة الخطوط الجوية الكويتية بالطيران المنخفض بجولة فوق آبار النفط التي ما زالت مشتعلة، فأخذ بعض الركاب بالتكبير والتهليل وانهالت الدموع، فالموقف أكبر وأقوى من الاحتمال، واستمرت الحال على ذلك حتى حط الطائر الميمون على أرض الكويت، فارتجت القلوب والأبدان وزادت الدموع انهماراً، وانهار بعضهم حباً وعشقا لهذا الوطن وثراه... آه يا كويت كم نحبك وكم نعشق أرضك وترابك!!

فليحفظ الله الكويت وقيادتها وأهلها من كل سوء ومكروه.