«سيد القشاش» كما رسم ملامحه الكاتب محمد سمير مبروك، هو الشاب الاسكندري اللقيط الذي أمضى نصف عمره في الأحداث، والنصف الثاني في الملجأ، ولما خرج إلى الدنيا احتضنته امرأة علمته أن {النوة تُغرق سفينة لكنها لا تفك عقدة خيط}. وسرعان ما يجد نفسه متورطاً في ارتكاب جريمة قتل امرأة كانت الشبهات تحوم حول زوجها رجل الأعمال، قبل أن يظهر شاهد إثبات ينفي عنه الشبهات ويحولها إلى {القشاش}، الذي يهرب ليحصل على دليل براءته. هنا يبدو التأثر الواضح للسيناريست (كاتب {عبده موتة}، بالإضافة إلى فيلمي: {المش مهندس حسن} 2008 و}محترم إلا ربع} 2010) بفيلم {الهروب} لكنه افتقر إلى دقة وإحكام وانضباط سيناريو مصطفى محرم في {الهروب}، مثلما بدت الهوة شاسعة بين الإمكانات المتواضعة للمخرج إسماعيل فاروق، وبين حساسية المخرج عاطف الطيب وواقعيته، فضلاً عن مصداقية {الهروب}، التي لم نر منها سوى شذرات في فيلم {القشاش}، على رأسها تنوع الرؤية البصرية؛ فمن الإسكندرية انتقلت الكاميرا إلى الفرح الشعبي، والمولد، وأحد أديرة المنيا، بالإضافة إلى ضفاف النيل وبيت نوبي ومعبد فيلة في أسوان، في حين عانت مشاهد هروب البطل من سذاجة وترهل في الإيقاع وافتعال صارخ؛ فالفرح ليس سوى تكأة لدغدغة المشاعر وإثارة الغرائز، بالتركيز الفج على صدر الراقصة صافيناز ومؤخرتها، والإيحاء بأن {القشاش} لا يقل موهبة في الرقص بالسلاح الأبيض عن {عبده موتة}. والقول إن المشهد يمثل ضرورة درامية للقبض على {القشاش}، عقب اتهامه بارتكاب جريمة القتل، هو العبث بعينه؛ إذ كان بمقدور السيناريست، لو أنه واسع الحيلة، أن يلجأ إلى مبررات أخرى كثيرة، بعيداً عن هذا الفرح الذي ملأ الأجواء، لأهداف إنتاجية رخيصة، صخباً وضجيجاً وقبحاً وابتذالاً!
قلة حيلة كاتب السيناريو كانت سبباً في تقديم مشهد استلهم من خلاله واقعة اقتحام أقسام الشرطة، في الآونة الأخيرة، لكنه والمخرج فشلا في محاكاة الواقع، وجاء المشهد ضعيفاً على الصعيد الفني، وافتقد الحيوية المفترضة في مثل هذه النوعية من مشاهد الحركة، وينتهي ـ على أي حال ـ بهروب {القشاش}، ومقتل رفيقه الذي دبر عملية الهروب، وهو الحل التلفيقي الذي اعتاد كاتب السيناريو الفرار إليه كلما نضب معينه الدرامي؛ ففي موضع آخر من الفيلم يقع {القشاش} في قبضة الضابط لكنه يتركه برعونة، ومن دون سبب مقنع، وكأن القبض عليه سيؤدي إلى وضع نهاية للأحداث؛ في فيلم {القشاش} لا وجود للمنطق، ولا أهمية للحفاظ على الإيقاع؛ الأغنية والرقصة تكتملان حتى النهاية، واللحظات التي تفترض تكثيف جرعة الإثارة والتوتر تطول وتترهل من دون قطع أو توقف، والخيوط الدرامية تتشعب، والشخصيات تتعدد، ويتحمل المشاهد ما لا يطيق؛ ففي بداية رحلة الهروب يلتقي {القشاش} امرأة تموت بعد أن تُنجب طفلة، تاركة وصية بأن يُسلِّم الطفلة إلى صديقتها الراقصة، وتُصبح الفرصة مؤاتية للتعرف إلى عائلة الفتاة، والراقصة والبلطجي الذي يعشقها من طرف واحد، وتقديم أغنية هابطة ورقصة مبتذلة. في تلك اللحظة، يُدرك المشاهد، ربما قبل السيناريست، أن الراقصة ستقع في غرام {القشاش}، وأن معارك ستحتدم بينه والبلطجي، وهو ما يحدث بالفعل بعد أن يتحول {البلطجي} إلى {المخبر كولمبو}، الحاضر في مواقع هروب {القشاش} قبل ضابط الشرطة، بل يلاحقه و}الراقصة} من الإسكندرية إلى أسوان ولا يتورع عن قتل غريمه في ساحة دار القضاء، وبحضور رجال الشرطة ! لا يستطيع المتابع لأحداث {القشاش} أن يتجاهل ولع كاتب السيناريو بالميلودراما الهندية، وهو ما ظهر جلياً في المواقف التي يغيب عنها المنطق، وتزخر بنبرة وعظية ساذجة، و}تلفيق ميلودرامي}، لكن الأداء الإنساني المؤثر والعذب للفنانة دلال عبد العزيز التي نضجت واكتسبت خبرة واضحة، ينقذ الفيلم من الركاكة، ومن تخمة الشخصيات الدرامية التي أدت إلى انعدام التركيز وغياب التأثير، ومن تكريس الصورة القبيحة والمغلوطة عن {الصعيدي الساذج} منبع النكات اللاذعة، ومصدر اللهجة المشوهة! في فيلم {القشاش} سعي عجيب لادعاء التسامح والحكمة ونبذ العنف والتطرف، فيما لا يغيب عن المشهد الهبوط والابتذال، وعن الحوار الإسقاط الجنسي، رغم اجتهاد المخرج إسماعيل فاروق في القفز فوق ثغرات السيناريو، وتنويع الرؤية البصرية، والتبرؤ من {المدرسة السبكية}، التي اضطرته إلى إخراج أفلام على شاكلة {حصل خير} (2012)، {عبده موتة} (2012)، {ولاد البلد} (2010) و}ابقى قابلني} (2009). لكنه، في ما يبدو، تشبع بتوابلها، وتجرع كأس ابتذالها، ولم يبرأ من التأثر بتشويهها! اللافت للنظر، أخيراً، أن بعضاً ممن كتبوا عن {القشاش} لم يشاهدوه، بل اعتمدوا على {التريللر} الدعائي للفيلم، وإلا أدركوا، بسهولة، أن {القشاش} لم يكن لقيطاً، حسب مجريات الأحداث، بل طفلاً غير شرعي للسينما {السبكية}.
توابل
فجر يوم جديد: {القشاش} اللقيط!
22-11-2013