نحن والقبعات الست
إدوارد دي بونو، من الأسماء المؤثرة التي لا يمكن تجاوزها حين الحديث عن برامج التنمية الذاتية. ولعل انجازه الأكثر تداولاً في موضوع هندسة الفكر البشري هو اكتشافه لطريقة التفكير من خلال القبعات الست، والتي أثبتها في كتاب يحمل عنوان: «قبعات التفكير الست – Six Thinking Hats». لقد كان دي بونو يتأمل في حال الارتباك والفوضى التي تعتري الحوارات والنقاشات بين الناس، ويتساءل عن سر الانفلات وعدم التوافق وقلة الإصغاء والميل بشكل عام إلى الاختلاف في الآراء أكثر من الاتفاق والتقارب. وتوصل إلى أن المشكلة تكمن في سوء استخدام ملكة «التفكير»، وعدم إدراك كونها مهارة يمكن ضبطها وتحسينها، فقام بتصميم مجموعة من البرامج لتصحيح المسار ومحاولة تقويم أساليب التفكير من أجل حياة أكثر توافقاً وانتاجية.ولتقريب فكرة الكتاب، يرى المؤلف أن الإنسان بدلاً من أن يكون مشتتاً تحت تأثير مجموعة من الخواطر والميول والعواطف والمعلومات الأولية المختلطة والتي تمثل بجماعها ذاتيته الخاصة، عليه بدلاً من ذلك أن ينظم هذه الفوضى في مسارات محددة أشبه بالخرائط الفكرية الواضحة المعالم. وعليه ساعة عرض هذه الأفكار خلال اجتماع أو حوار أن يلتزم مع مجموعته السير في مسارات معينة يستدعيها المقام، مما يخلق حالة من التواؤم والهارموني بين المجموعة ككل، الأمر الذي يسهل الوصول إلى الأهداف المنشودة.
أما المسارات الفكرية لأي نقاش أو حوار فقد وجد المؤلف أنها تقع في ستة مسارات أو أحوال: الأولى ارتداء «القبعة البيضاء»، وذلك حين التعامل مع ما يخص الحقائق والمعلومات المجردة والتي تكون على شكل صور أو أرقام أو كميات أو أشكال أو ما يشبه ذل. وهذه المسألة يتم تقديمها والتعامل معها بعقلية «الكمبيوتر» وبتجرّد تام وموضوعية. وشبه المؤلف التعامل مع الحقائق والأرقام بارتداء القبعة البيضاء، دلالة الحياد واللا لون. الحالة الثانية، ارتداء «القبعة الحمراء»، حيث يُسمح بالتعامل مع العواطف والأحاسيس إزاء أي موضوع كجزء من خارطة التفكير، دون الحاجة إلى تبرير هذه المشاعر أو إيجاد قاعدة منطقية لها أو الحكم عليها، كونها تنطلق من البديهة أو الحدس أو الخبرات المتراكمة. الحالة الثالثة، ارتداء «القبعة السوداء»، حين توجيه التفكير للرؤية السلبية، وهدفه الإشارة للأخطاء والأشياء غير الصحيحة، والتي توجَّه للموضوع محل البحث وليس للأشخاص، وذلك لتفادي الفشل أو القصور في مشروع البحث. أما حين ارتداء «القبعة الصفراء»، فينبغي أن يكون التفكير إيجابياً كاللون الأصفر في إشراقه وتوهجه، وأن ينحو هذا التفكير نحو البحث عن حسنات وإيجابيات المقترحات المقدمة، بما فيها الأحلام والرؤى والآمال التي تعقد على الموضوع المطروح. ثم يأتي ارتداء «القبعة الخضراء» حين طرح الأفكار الإبداعية أو الاستماع لها، فاللون الأخضر يدل على الخصوبة والنماء، وحتماً يظل العقل البشري قادراً على التفكير بشكل ابداعي وتجاوز ما هو اعتيادي ومعلوم نحو ما هو جديد ومبتكر. ولا بد من إعطاء مساحة للتحفيز والتأمل فيما هو جديد ومبتكر دون التسرع بالحكم عليه بالقبول أو الرفض.أما القبعة الأخيرة وهي «القبعة الزرقاء»، فيعني ارتداؤها القدرة على التنظيم وإدارة حلقة الحوار ضمن هيكل تنظيمي محدد ودقيق كما يقود المايسترو الأوركسترا. وهذه المهمة ليست منوطة برئيس الجلسة فقط وإنما يشارك فيها الآخرون أيضاً للمساهمة في تقديم اقتراحات تتعلق بتنظيم عملية التفكير.لعل المتأمل في هذا الطرح المنهجي يدرك أن هذه القبعات الست لخريطة التفكير لم تُصمم فقط لاجتماعات العمل أو النهوض بمشاريع رجال الأعمال، وإنما هي أسلوب منهجي وطليعي يعين على التواصل الصحي وقطف الثمار الناضجة حتى في حواراتنا اليومية، فضلا عن أن تكون منهجاً سلوكياً وحياتياً لما هو أهم من ذلك وأخطر. ولعله يحق لنا – ونحن نقرأ مثل هذه الطروحات الرائدة - أن نحلم بذلك اليوم الذي تختفي فيه عندنا صراعات الديكة والتراشق بسهام الكلام الخارج عن حدود اللياقات والموضوعية، والذي أصبح بضاعة يومية ومتداولة في مشاهد حياتنا، كجلسات مجلس الأمة وبرامج «التوك شو» والندوات المفتوحة والسجالات الصحافية، وحتى في المؤسسات التي تُصنع بها القرارات المصيرية. وإن كان «التفكير» كما اقترحه دي بونو أصبح مادة دراسية من ضمن ما يُدرّس لطلبة المدارس في الدول المتحضرة، فيكفينا أن يُلتفَت له ويؤخذ بعين الاعتبار في مثل مؤسساتنا سالفة الذكر.