تتطلب السياسة الخارجية انتباهاً كبيراً عند السعي إلى إدارة الأزمات، فعندما تندلع ثورة في شوارع مصر أو ليبيا أو أوكرانيا، يتساءل الجميع عما سيكون عليه رد فعل الولايات المتحدة، صحيح أن هذا يشكّل عنصراً مهماً في دور الولايات المتحدة في العالم، إلا أنه يبقى تفاعلياً وتكتيكياً.

Ad

يكمن التحدي الأكبر في وضع استراتيجية طويلة الأمد تستمر بعد انقضاء الأزمة، وهذا ما حاولت إدارة أوباما تحقيقه في سياستها تجاه آسيا، علماً أن زيارة الرئيس الأخيرة إلى هذه المنطقة تشكّل جزءاً منها، لكن التقدّم الذي أحرزته ظل ضعيفاً وناقصاً، فرغم ذلك، يأتي الخطر الأكبر الذي تواجهه الاستراتيجية الآسيوية من الإدارة بحد ذاتها، لا من الكونغرس أو الشعب الأميركي، فالصعوبات في تنفيذ الاستدارة نحو آسيا تثير سؤالاً مهماً: هل تستطيع الولايات المتحدة اتباع استراتيجية كبيرة اليوم؟

لا شك أن مقاربة الرئيس أوباما الأساسية حكيمة وتشكّل بطرق عدة استمراراً للسياسة الخارجية الأميركية منذ عهد بيل كلينتون، فعلى الصعيد الدبلوماسي، تشمل سياسته هذه عنصرَين: الردع والتقرب، فتسعى كل الدول في آسيا (تماماً كما الولايات المتحدة) إلى إقامة علاقات اقتصادية أقوى وأعمق مع الصين، إلا أنها ترغب أيضاً في أن تضمن عدم تحوّل هذا البلد إلى قوة عدائية توسعية في المنطقة. من الصعب بالتأكيد تحقيق توازن بين هذين العنصرين ومن السهل انتقاده، لكن إدارة أوباما نجحت عموماً في ذلك، فقد حافظت على علاقة لصيقة مع الصين، راسمةً في الوقت عينه حدوداً واضحة تردع أي محاولات توسع إقليمية.

لكن أوباما لم يولِ استراتيجية الاستدارة التي تبناها الاهتمام والطاقة الكافيين، فقد ألغى رحلتَين إلى هذه المنطقة، ولم يزُر الصين منذ سنته الأولى في سدة الرئاسة، كذلك يعاني فريقه في ولايته الثانية نقصا غريبا في الخبراء المتخصصين في الشأن الآسيوي، وهذا خطأ بالتأكيد لأن النجاح في آسيا قد يشكّل النجاح الأهم الذي قد يحققه أوباما في ما تبقى له من وقت في منصبه هذا.

ثمة وجه بناء مهم للسياسة الآسيوية، فهي تتمحور حول الشراكة عبر المحيط الهادي، ولن تمثّل هذه الشراكة الصفقة التجارية الكبرى خلال عقود فحسب (تشمل معظم اقتصادات آسيا الكبيرة وربما الصين في النهاية)، بل ستعزز بقوة أيضاً القواعد الأميركية الطراز بشأن التجارة المفتوحة والحرة حول العالم. رغم ذلك، لم يستطع الرئيس الحصول على "الصلاحيات التجارية" الضرورية التي تسمح له بالتفاوض بشأن صفقة تجارية مماثلة.

أدار الحزب الديمقراطي، الذي اعتُبر سابقاً النصير الأكبر للتجارة الحرة، ظهره منذ زمن لهذه الشراكة عبر المحيط الهادي، ولا شك أن هذا تبدّل محزن في حزب كان في الماضي منفتحاً ومتفائلاً، وفي السنوات الأخيرة، بات الدعم الجمهوري للتجارة أيضاً أكثر ضعفاً؛ نتيجة لذلك، فقدت الشراكة عبر المحيط الهادي الكثير من أهميتها، مع أنها فكرة عظيمة وطموحة. بالإضافة إلى ذلك، ستحتاج الاستراتيجية العسكرية الأميركية في آسيا إلى موازنات كبيرة، إلا أن هذه الأخيرة تخضع للضغوط من كلا الحزبين، فضلاً عن أن الدعم الشعبي لأي نوع من السياسة الخارجية السخية أو الطموحة يبدو متدنياً جداً راهناً.

قد يبدو للوهلة الأولى أن أكبر عقبة أمام استراتيجية أميركية جدية مسألة تقنية بحتة، فقد اقترحت الإدارة إصلاح صندوق النقد الدولي، إلا أن الجمهوريين في الكونغرس عرقلوا هذه الخطوة، لكن إصلاح هذه الوكالة بالغ الأهمية بالنسبة إلى دور الولايات المتحدة العالمي في المستقبل.

لطالما سيطرت الولايات المتحدة وأوروبا على المجلس الحاكم في صندوق النقد الدولي، ولكن مع تنامي نفوذ الدول الآسيوية على المسرح العالمي، اقترحت الإدارة زيادة أصواتها في هذا المجلس، ومع أن هذه الخطوة ستحد من صلاحيات أوروبا، لا الولايات المتحدة، عرقل الجمهوريون هذه الخطة طوال ثلاث سنوات ولم يعربوا أخيراً عن أي نية في السماح بتمريرها.

وحّدت هذه المسألة عدداً من الدول الآسيوية (الصين وإندونيسيا وسنغافورة) التي تعتبر هذا السلوك دليلاً على أن الغرب لن يسمح لها مطلقاً بمشاركته في القوة الحقيقية في المؤسسات العالمية، وهم محقون في ذلك.

بعد الحرب العالمية الثانية، واجهت الولايات المتحدة الشيوعية، لكنها بنت أيضاً عالماً مستقراً بإنشائها مؤسسات حددت عدداً من القواعد العالمية ووسائل تشاطر القوى، بما فيها صندوق النقد الدولي، والأمم المتحدة، والبنك الدولي؛ لذلك من الملح اليوم توسيع هذه المؤسسات لتشمل القوى الناشئة في آسيا.

إذا لم تقدِم واشنطن على هذه الخطوة، فستقوّي الأصوات (خصوصاً في الصين) التي تدعي ألا داعي لضمّ الدول الآسيوية إلى إطار العمل الغربي للقواعد الدولية (لأنهم سيبقون دوماً مواطنين من الدرجة الثانية). لذلك على هذه الدول، وفق تلك الأصوات، التحلي بالصبر، إنشاء مؤسساتها الخاصة، والالتزام بقواعدها الخاصة، ولا شك أننا سنندم عندئذٍ لأننا لم نسمح لتلك الدول بالانضمام إلينا حين تسنت لنا الفرصة.

Fareed Zakaria