بعض نقاد الموسيقى شغلوا الصحافة الثقافية وقراءها بلحظة شغب هذه الأيام. فعلى مسرح «غلينديبورن» قُدمت أوبرا «فارس الوردة» الشهيرة للألماني ريتشارد شتراوس. وحكايتها توزع المشاهد والسامع بين الهزل والجد. فأوكتافيان الشاب مولع بحب الأرستقراطية مارشالِن التي تكبره سناً بكثير. قريبها يفكر بالزواج من صوفي، فتقترح مارشالِن أن يقوم أوكتافيان بدور «فارس الوردة» (من ينوب عن الخطيب في تقديم الوردة الفضية للعروس). تقترح لأنها، لكرم روحها، تعرف أن أوكتافيان سيقع أسير حب صوفي التي تماثله عمراً. التي تقوم بدور صوفي هي السوبرانو الشابة تارا أيرّوفت. صوت رائع، ولكن تكوينها الجسماني يميل إلى السمنة. النقاد، الذين يُفترض أن ينشغلوا بتقييم الأداء الصوتي، انشغلوا بتقييم التكوين الأنثوي للمغنية الشابة. وتماثلت انتقاداتهم عبر عدة صحف رئيسية: فالمغنية السوبرانو «بدينة»، «ممتلئة»، «لا تُصدق في القبح وانعدام الجاذبية»، «حزمة سمنة لجرو دَهين»... إلخ.

Ad

    كلام قد يُقال، بصورة لا تقل تجنياً على الفن، على ممثلات المسرح والسينما، مع أن معيار ممثلة المسرح والسينما لا يُفترض أن يتجاوز قدرتها على التعبير والأداء.

    ردود الأفعال على نقاد الموسيقى كانت حارة، من قبل مغنيات الأوبرا على وجه الخصوص. اتهم النقاد بالتمييز العلني بين الجنسين، فمغن بالغ البدانة مثل لوتشيانو بافاروتّي لم يتعرض للنقد يوماً بسبب سمنته. إن هذا الموقف يتضمن في جوهره رغبة في جعل المرأة تشعر بالنقص، باعتبارها إنساناً من الدرجة الثانية. وهو بالتأكيد يُسهم في جعلها تفقد الثقة بقدرتها كمغنية أوبرا، بالرغم من أنها لا تجد أي علاقة بين حجم جسدها وبين الغناء، فالأوبرا هي صوت مغنيها أولاً وأخيراً.  

    في هذا الشغب حقيقتان ذواتا سيادة في الغرب، والعالم الحديث جملة، عزّ نظيرها. الحقيقة الأولى هي سعي كل السوق (شركات، مؤسسات إعلام وإعلان، سينما وتلفزيون... الخ) لإفراد المرأة مُحاطة بالمرايا في ركن مضاء، والسعي إلى تحويلها إلى كيان مشروط بالامتاع والإثارة. الأمر لم يعد مقصوراً على إثارة الرجل وحده، بل إثارة المرأة أيضاً. لأن المرأة لم تعد صديقة المرآة، بل صنيعة المرآة. وميلها النرجسي تحول من طبيعة صحية إلى صنعة مرضية.

    والحقيقة الثانية اقتحام علة الحداثة المرضية هذه عالم الثقافة والفن والموسيقى الجدية. كنتُ شخصياً مولعاً بالاشتراك في مجلات الموسيقى والأوبرا وقراءتها، ثم توقفت خائباً. كما توقفت عن الاشتراك في مجلات الفن قبلها. كنت أقرأ مقالات رائعة عن الأعمال الموسيقية وعن المؤلفين الموسيقيين وعن فن العزف وفن الغناء وأعلامهما. كنت أتعلم في بهو روحي يليق بكلمة فكر وفن. الآن تطرّز هذه المجلات صورُ العازفات والمغنيات، وقد أُخضعن عن إرادة طبعاً لكل الأفانين في مختبر الأزياء، والتجميل، والتصوير، والتلوين والطباعة... إلى ما لا أعرف، لتظهر العازفة والمغنية (حتى لو كانت تعزف وتغني لباخ وبيتهوفن) بدرجة كافية للإثارة الحسية، إثارة الرجل والمرأة معاً كما أسلفت.

     المجلات التي تُعنى بالمسرح والموسيقى والأوبرا، وهي تتسم بالجدية، هكذا يفترض القارئ الجدي، صارت معرض أزياء وأجساد مثيرة بتعمّد. وهذا الأمر لم يعد يتم برضى المرأة بل بتنافسها الشديد. لقد تم تعتيم مدروس ومُتعمّد على ظاهرة المُبدع، لصالح ظاهرة النجم.

   في الاخراج المسرحي للأوبرا، صارت عوامل النجاح مشروطة بمقدار جرأة المخرج على التأويل المتعمّد، بهدف تحقيق مشاهد حسية مثيرة، من المداعبة الحارة إلى الفعل الجنسي. لقد أصبحت كلمة رفيعة لا تليق بالفنون الجدية، وكلمة تطلّع لا تصلح لها، لأن التطلع عادة ما يكون إلى فوق. ولو كان هذا نتاج سوء فهم للنزعة التعبيرية التي تفجرت مطلع القرن العشرين، والتي دعت إلى رحيل داخلي للفن والموسيقى والأدب، لهان الأمر. ولكنه نتاج سوق المال والربح لمن لا يُحسن القراءة والاصغاء، والذي جعل الفن مادة استثمار تمتص الروح من المستهلك البائس.