تيار "الحركة" Movement الأدبي في انكلترا معاصر تماماً لحركة الريادة الشعرية التي تمثلت بالسياب ونازك وجيلهما. تشكل بعد الحرب العالمية الثانية على قاعدة رافضة لنزعة التكلف والميل الزخرفي وداعية للبساطة. اعضاؤه البارزون: فيليب لاركن، كِنغسلي أيْمز، ويْن، غان، ديفي، جيننغز... وآخرون.

Ad

لا شك ان لاركن، هو الأكثر تميزاً وموهبة شعرية، ولكن جيننغز الأكثر حميمية أشعر دائماً بدفء صوتها وقرب عناصرها الشعرية من تطلعات القارئ فيّ. فلغتها الشعرية ماهرة وعلى شيء من اليسر والكثافة، وغنائية تميل الى خبرة الداخل من دون ميوعة، والى الموازين والنظام مع حرية التنقل بين الاشكال الممكنة (شكل تقليدي، شعر حر، قصيدة نثر). غير ميالة الى التزام موقف عقائدي، وشعرها يتعارض مع الكتابة في القضايا العامة والأحداث الجارية. بل هو ميال الى تأمل وفهم العاطفة الشخصية. قصائدها قصيرة عادة، لا تتجاوز الصفحة الواحدة، وفيها مقاومة طبيعية لكل مفردة غريبة وغير مألوفة. تدفقها دائماً باتجاه تأملي في طبيعة الشعر، والفنون، خاصة الموسيقى، وفي تجربة الحب، والايمان، والفرح، والحزن، والصداقة، والطفولة، وتسارع الزمان. ولأن وجودها كله ينبض بإيمان كاثوليكي عميق الجذور، نجد شعرها ينبض هو الآخر بعناصر دينية مؤثرة لا تغفل أن الفنان ليس الا آلة موسيقية تعبر عن مجد الله.

اليزابيث جيننغز (1926 ـ2001) أميركية المولد. بدأت بمدرسة كاثوليكية، ثم انتقلت الى اكسفورد، وهناك تعرفت على حبها الشعر الكلاسيكي، فنمت قدراتها باتجاه اللغة البسيطة، والاهتمام بالشكل، والميل الى استعمال الوزن والقافية. وهناك تعرفت أيضاً على بعض أبناء جيلها، من امثال أيمز، ومعهم شكلت مجموعة "الحركة" المعروفة، ولقد تفردت بينهم بالكاثوليكية وبكونها امرأة. عملت بعد التخرج في مكتبة اكسفورد العامة، وكانت قد باشرت بنشر عدد من قصائدها. وعلى مجموعتها الشعرية الصغيرة الأولى "قصائد" فازت بجائزة الادارة المحلية، ولكن جائزة "سومرت موم" التي حصلت عليها عام 1956 عن مجموعتها "طريقة في النظر"، وهي الثانية، مكنتها، بالمبلغ 400 جنيه استرليني، من تحقيق حلمها بالسفر ثلاثة أشهر الى ايطاليا، مركز كاثوليكيتها وعالمها الكلاسيكي الأثير.

شعرها، بعد هذه الرحلة، أصبح أقل اعترافية، وبدأ ينتخب موضوعه من المحيط: أطفال، مسنون، أفكار دينية، وفيض الزمن العابر. وهي كثيراً ما تنعي على الحياة الحديثة تلاشي المقدس.

على امتداد سنوات الستينات عانت جيننغز من سلسلة انهيارات عصبية واضطرابات عقلية، أصبحت أحد أهم ينابيعها الشعرية حتى اليوم. والرائع في هذه التجربة أن صوت الشاعرة فيها غير ندّاب ومُشفق على النفس، بل ايجابي وقاطفُ ثمار. انها تستثمر فنها في طرد شياطين انهيارها العقلي عن طريق تحويل فوضى أحلامها السوداء الى ضرب من الصفاء. في قصيدة "فان كوخ" (الذي يملك تجربتها ذاتها) ترى أن الجنون عنصر مهم في صفاء الفن: "فأنا أعرف فقط بأن فنك المندفع البري، يأخذ بك الى الأسى، ولكنه يجعلنا نُقبلُ، بغرابة على الرقة واللطف، وعلى معنى السلام".

بين يدي مجموعتها "عواقب موقوتة"، صدرت قبل أكثر من عشرة سنوات،

وهي المجموعة الواحدة بعد الثلاثين، صوتها فيها أشبه بتدفق ابتهالات من فم شاعرة بلغت منتهى النضج والسيطرة على اللغة والشكل. ولكن المعنى لصيق اللغة والشكل، يذهب بنا بعيداً:

"ثمّةَ أماكن غامضة لم احتفظْ الا بأصدائها في الرأس،

وبعبيرها أيضا. إنني لم أرَ قطّ كألوانها من قبلُ ومن بعد

والآن أجدُ مشقّةً في الحديث عن هذه الأرض الغريبة

التي ما زالتْ تلاحقني.

لا استطيع ان أفهم/ لم جاء بي المرضُ/ الى غابات وأراض كهذه..."

ابتهالٌ وشُكرانٌ داخل عالم أرضي ولكن مضاء من مصدر قديم وأكيد. والشاعرةُ في هدأة العارف، تفتحُ الذراعين للاحتضان:

"حكمةٌ تُقبلُ أم موسيقى في هذه الساعات الوجيزة،

صفاؤهما موحّدٌ ولقوتيهما الخيرتين أُسلمُ النفس

ولكنها استراحة حية هذه التي أعرفها الآن

قوى الإكراه تتوقف، وكل شيء هنا/ مماثل لمعناه بصورة عصية على مدركاتي

كلُّ الذي أعرفه هدفٌ غنيٌّ بصوت السكينة

يعرض نفسه، وأنا أصغي للفكرة وللمناظرة".