جميلة جمعة... تكشف انكسارات الآثام!
رغم أن {ماض أخجل منه} هو إصدارها الأول، فإن جميلة جمعة تعتبر، بعملها هذا مشروعاً مكتمل الأركان لولادة روائية متميزة في وسطنا الإبداعي تضع إصبعها على جرح المجتمع وتعكسه في روايتها بواقعية إلى حد الوجع.
عندما أمسكت برواية {ماض أخجل منه} للكاتبة جميلة جمعة، تساءلت ما الذي يدفعني إلى قراءة رواية تقارب الـ 300 صفحة لكاتبة لا اسم لها في الساحة الإبداعية، بمعنى لا علم لي بنتاجها السابق، وأيضاً لا أعرف لماذا سكن الكتاب رفوف مكتبتي، يشكو الوحدة لفترة تقترب من عام. أخيراً تشجعت، والتقطته لأتصفح الصفحات الخمس الأولى، هنا بإمكانك أن تعرف مدى جدية الرواية وكاتبتها.أول أسطر الرواية كانت مرتبكة وسرداً بوضوح تام، لكن بعدما اقتربت من الفقرات التالية اختلف الأمر... فرح وصدمة في آن، بالنسبة إلي كمتلقٍّ، فاستمريت إلى الصفحات الأخيرة لسبر أغوار هكذا عمل، لشابة كويتية تقتحم عالم الإبداع، وقد يكون للمرة الأولى.
نعم كان الإصدار - فرح... لأن جميلة جمعة، بعملها هذا، إنما تعتبر مشروعاً مكتمل الأركان لولادة روائية متميزة، في وسطنا الإبداعي، وصدمة بالنسبة إلي لأنني اقتحمت بحث {غوغل} لأعرف أي معلومات عن الكاتبة أو حتى خبر عنها، أو تاريخها ككاتبة، ولكن لا معلومة في صحفنا المحلية، رغم أن الكتاب صدر منذ فترة تقارب العام.الكتاب من القطع المتوسط، إصدار عام 2012، بغلاف جميل، منشورات {بلاتينيوم بوك}، دار نشر كويتية تهتم بنشر إصدارات الشباب الكويتي، وتلقى رواجاً وإقبالا من تلك الفئة، وهذا ملاحظ أثناء معرض الكتاب السنوي، بغض النظر عن كثافة إصداراتها كل عام. ورغم أن دار {بلاتنيوم} في سوق النشر منذ سنوات، فإنها تغفل أساسيات مهمة، إذ يفترض أن تحدد نوع أعمالها على غلاف الكتاب: رواية أو قصص أو شعر، ليعرف القارئ النوع الأدبي للإصدار، فهذه الرواية لم يكتب على غلافها ذلك رغم أهميته.بدايات موجعةتبشرك الصفحات الأولى ببدايات سردية سهلة الحروف، ولكن قد تنجح في إقناعك بالاستمرار، وهنا علينا أن نقتطع مقاطع من الصفحة الأولى، حيث يبرز لنا بطل الرواية ناصر الذي تدور حوله الأحداث وتتلمس بشخصيته انكسارات تؤلمك... تكتب جميلة جمعة الآتي... {يا ترى ما يوجعك يا ناصر... ما الذي أوقع بك وألمك... جعلك تقع على أرضية الحمام بثيابك تحتضن جسدك، وكأنك جنين يأبى أن يخرج للحياة... تختلط دموعك ولعابك بذاك الماء الذي يأبى أن يطهرك...}، تأتي البدايات هكذا.وفي مقطع آخر نكتشف استعمال الكاتبة للمكون المحلي كمفردة في الحوار، ويتضح ذلك عندما يخاطب ناصر والدته في المقطع التالي: {انتي شفيج ؟ جنج البخت... تتحملين معاي وتصبرين وتدعين لي علشان ارجع لج بشهادتي الكبيرة}.هنا يتبين لنا أن طابع الرواية اجتماعياً، لكن كتب السرد بلغة عربية فصيحة، والحوار بأكمله باللهجة الكويتية، وهذا لا ضير فيه، إنما تعمدت الكاتبة استعمال مفردات في اللهجة لا يفهمها ألا من هو كويتي أو عاش في الكويت ويعرف عاميتها.لماذا الإغراق في ذلك؟ أرادت الكاتبة ذلك حتى تقحم اللهجة المحلية الصرفة، وهنا تكون أقرب إلى عقل القارئ الكويتي، لا سيما الشباب الذين يعجبون بالأعمال التي تخاطبهم بمفردات يفهمونها، وهذه ظاهرة جديدة تنتشر حيث يميل الشباب إلى ما يكتب باللهجة المحلية، أسوة بما هو متبع في الدراما التلفزيونية التي تلقى رواجاً. لا نساء لا بكاءمن خلال السير في محتوى العمل، نكتشف أنه يضم فصلين الثاني يكمل الأول، لو كان الفصل الثاني كرواية منفصلة لنجح، قد يكتشف القارئ عندما يقلب الصفحات... صفحة تلو الصفحة أن الكاتبة تتمتع بجرأة وثقة قد لا يمتلكها كاتب آخر. قد تحوم حول رأس البعض عند الكتابة رقابات عدة: رقابة النظام والقانون وما هو مسموح وما هو ممنوع، رقابة الإرث العائلي والتقاليد، رقابة المكون الديني ورقابة المكون المجتمعي... جميلة جمعة كتبت بأريحية تامة، وتخطت ذلك بفهم واع، وكشفت انكسارات الآثام في المجتمع بدون أن تخرج عن قوانين النشر.رغم أنها ممتعة ومشوقة، فإن الرواية تعرض كماً من الخطايا والموبقات المحرمة في مجتمع محافظ، مناظر عنف، أبطال يمارسون الممنوعات، والعلاقات الجنسية المحرمة - الزنا ... هنا تتعامل الكاتبة مع أحداث قد تقع في مجتمع محافظ، ولولا حدوثها لما اكتظت السجون بجرائم من هذا النوع يرتكبها مواطنون.كتبت جميلة بوعي وصدق، وامتلكت أدوات أساسية بالكتابة الروائية مع أنه إصدارها الأول، ولم يتعدَّ الأمر ذلك، إنما كانت تقدم تصوراً لكل موقف اجتماعي أو مرضي بتفاصيل علمية بحتة، ما يدلّ على أنها تقوم بعمل بحثي لكل موقف. ففي فقرة تعاطي البطلة الممنوعات، يأتي استخدام كلمات لا يعرفها إلا من درس أو بحث في كيفية التعاطي، وكذلك عندما يأتي في سياق الإحداث مرض الفشل الكلوي ثمة أشارات موجزة عن ملامح علمية لهذا المرض في دون تفصيل، وعندما يصاب بطل الرواية بحروق تتحدث الكاتبة عن درجات الحروق، وهذا جانب إيجابي في الرواية، إذ ثمة إيضاح لكل موقف وفق سرد علمي. أبطال الرواية: ناصر وفاطمة أو فطوم، وريم، وياسمين وهدى وسلطان، بعضهم مشوش وعنيف أو مبتلى بمرض نفسي حتى العظم، والبعض متلون وغشاش، قد لا يصادفك، لكن حتما نجده في مجتمعنا، أو أي مجتمع آخر، ونرى شخصيات تمثل الخير والاستقامة كفاطمة الأم وهدى وسلطان . وفي الرواية ترتكب ياسمين، في الفصل الثاني، كل الخدع المتاحة لتظفر بناصر، ولكن ثمة تحاملا على المرأة من الكاتبة، إذ تدفع النساء بطل الرواية إلى الخطايا، لا سيما في ذكر الكاتبة لأغنية بوب مارلي الشهيرة بمدلولها no woman. no cry بمعنى {لا نساء لا بكاء}. عالجت الرواية إشكالية الطبقية في المجتمع، وهنا قد لا نستوعب أن أن تكون شخصية ريم ابنة الذوات موجودة في مجتمعنا، إلا أنها تدخل عالم ناصر الأقل منها كمستوى اجتماعي، حتى والدته تستغرب كيف يوافق أهلها على الزواج منه من دون تردد.كذلك تناقش الرواية إشكالية الاغتراب للطلبة في الخارج، وخروج البعض عن سياق ما تربى عليه، وقد يجرّب البعض الآخر السباحة في بحر من الآثام تقوده إلى نهايات لا ضوء في آخرها.ملامح مستقبلحتما كل إصدار أولي لكاتب هو بمثابة فضاء يتعلم منه دروساً، ويلمس مدى تجاوب القراء وانتقاداتهم، ويكتشف أخطاء هنا وهناك، أو سلبيات قد يتجاوزها في أعمال لاحقة، وإيجابيات يفرح بها. هذه الرواية تفوقت على نفسها، إلا أن طول الحوار باللهجة المحلية قد يقود إلى ملل، ولن تجد قارئاً عربياً أو ناقداً يبحر فيه لعدم فهم اللهجة المحلية المستخدمة، ما عدا ذلك تعلن عن مولد كاتبة كويتية تبشر بمستقبل ملامحه ظاهرة للعيان، وبانتظار عمل مقبل، وألا تتوقف مسيرة جميلة جمعة عن الكتابة.