في مقدّمة جديده {عزلة بلون البحر} يعلن الشاعر حسام لطيف البطّاط أنّه ليس مقاتلاً في الحرب التي ذكرتُها، وقد جمع في ديوانه قصائد تختلف على مستوى الشكل إلاّ أنّ ما يجمع بينها انبعاثها من مصدر واحد هو ذات الشاعر: {فكيف أفرّق بين مشاعر تنبعث من مصدر واحد في عصر تجاوزت فيه الفنون، وتداخلت فيه أجناس الأدب؟}

Ad

مطر الرحيل

    يستهلّ البطّاط بوحه بقصيدة {مطر الرحيل}، وهذا العنوان صادق الانتماء إلى الطقس العراقيّ وإلى وجع تقوله الأرض ولا يجد له مأوى أكثر دفئاً من القصيدة. ومطر الشاعر حروف حزينة تسيل في قطرات ترتجلها سحابة الكآبة العملاقة وتمتزج بدموع الشعراء اللابسة ماءها من دم القلب لا من جُرْن العين: {مطر الرحيل على يديك رثاءُ / رفقاً، فدمع الشاعرين دماءُ}. وقد يكون البطّاط مقنِّعاً ضمير الـ}أنا} بضمير المخاطب ليرسل كلامه إلى ذاته: {ها أنت تتّخذ السماء – مكابراً - / وطناً لتخذل أرضك الأسماءُ}... وهذا الكلام موشوم بكلّ ما في الحزن من ألوان قاتمة ليصير العذاب موضع تحيّة، وتمسي الأضلع نَوْلاً يجود بالرداء على كلّ جرح: {حُيِّيتَ يا أرقّ العذاب،  فأضلعي / ما زال فيها للجراح رداءُ}. وإذا كانت الأحزان تبحث عن وطن يليق بأناقتها وكرامتها فالشاعر خير حاضن لها، وإذا كانت المدائن لم تعد تتّسع للحياة فلا حلّ إلاّ في طرق أبواب منازل الوهم ونثر الخطو على دروب تصنعها الرغبة ويسيّجها الحنين: {أنا موطن الأحزان ليس لأحرفي / ألقٌ سوايَ تهابه الظلماءُ / أنا قلبه المجنون كلّ مدائني / وهمٌ وكلّ دروبها أهواءُ}...

    وفي قصيدة {عدالة الشعراء} يخاطب الشاعر مجهولاً يبدو من أهل الظلم والظلام: {خذ ما تشاء / ما ظلّ في عينيّ من قلق الضياء / واسكب ظلامك فوق قارعة السماء}... وأمام هذا الاغتيال للضوء وخصوبة رحم المأساة يبقى الرهان على عدالة الشعراء الذين يمشون على نور حروفهم وبِهَدْي مصابيح المعاني النبيلة: {خذ ما تشاء / واعلم بأنّ عدالة الشعراء أنقى من دموع الياسمين}. وما يؤلم البطّاط أنّ الكلمة تجوّفت ورعى نسغها جراد زمن متصحّر، وأنّ المدينة تواطأت مع وبائها على الحرف وزيّنت به صدر الخريف وغابت في حلم يعيش على ما بقي من دموع الأنبياء: {... حرف كأوراق الخريف / تبرّأتْ منه المدينة حين عانقها الوباء / ... حلم ستُرضعه المدينة ما تبقّى من دموع الأنبياء}.

بغداد البطاط

    وتأتي قصيدة {بغداد} التي تغسل الزمن بالدم العراقيّ فيصير لغة حمراء تخبّئ أحرفها تحت أجنحة الثواني الصغيرة: {دم هو الغيم يطوي صوت ألحاني / فكفكفي نزف أوراقي بأكفاني}. وبغداد البطّاط هي أكثر من مدينة، هي المكان الذي يجترح الحياة ويقول للحلم: {كن} فيكون، إلاّ أنّ قدرها شرّدها من قفير الطمأنينة وأفاعي الحقد لسعت سلامها فأمست غيمة لم تعد تتحمّل قسوة شتاء، فسُلبت حضورها في قطيع الغيم واتّجهت إلى نيسان الشاعر طالبة حقّ اللجوء العاطفيّ: {بغداد ساقية الأحلام ما فتئت / تسيل بين جفوني حين تلقاني / بغداد يا غيمة بيضاء أرهقها / جور الشتاء فزارتني بنيسان}. ولا شكّ أنّ البطّاط موفّق في بغداد الشعريّة ولو ظهر التفاوت بين البيت والآخر، فإذا بعاصمة الرّوح ترتدي جمال شهرزاد على شباب، وإذا بالشاعر يخفق في صدره قلب طفل ويحصي أشلاءه سلطاناً يرثي مملكة لا يتّسع رمادها إلاّ للذكريات: {يا شهرزاد الصّبا، رفقاً بعاطفتي / لي قلب طفل ولي أشلاء سلطان}.

    وعند بوّابة الحبّ يقف البطّاط حاملاً حقيبة السفر، مُجيداً الهروب من أقصى القلب إلى أقصاه، والهروب بالنسبة إليه ألطف أنواع الانتحار: {أجيد الهروب / لأنّ الهروب انتحار رقيق}، ورغم أنّ الحبّ يضمّ سرّاً مرتدياً معناه فإنّ السّراب والحقيقة يقيمان في القلب نفسه: {وكي تعلمي أنّ للحبّ سرّاً / وللسرّ معنى / وفي كلّ قلب ينام سراب / وتصحو حقيقة}.

    وللمرأة ما لبغداد من قدر يحترف صناعة الألم، ومثلما تقيم المدن في حقائب سفر أهلها وترتاح على بساط ذاكرتهم كذلك تفعل النساء. فأنثى الشاعر ترحل ولا تغيب وتعرف كيف تجعل من ابتسامتها سجّاناً على نبل، وكيف تحتفظ بعرش لها في محبرة شاعر: {أجيد الهروب / ولكنّ سرّ ابتسامتك المستباح / يحاصر أوراقي المتعبة}... وبغداد والحب إسمان لسماء واحدة، غير أنّ بغداد التي ترثي جمالها في مرآة الرماد وتسرّح شعرها بمشط الدم لا تستطيع أن تحتفظ بأسماء عشّاقها بعدما ترقّوا في العشق وصاروا شهداء الحنين: {بغداد فيها من الليل ما تشتهين / وبغداد تجهل أسماءنا / وتعرف أنّني حُطام السنين}...

    ومن بغداد إلى البصرة يحمل البطّاط شبكة حبره العاشق ويرميها عميقاً في مياه الوجد، وعلى ظهور كلماته يحزم الجراح في حين أنّه يتمنّى لو أنّه هو الطالع من لغة الجرح: {أأنطق الجرح؟! ليت الجرح ينطقني / فكلّ سعفة نخل فيكِ تشبهني}، والبصرة مرآة تحتفظ فضّتها بدفء الأمومة التي تكسر تماثيل العتمة بشيء من النور الذي لا يموت: {يا وجه أمّي الذي للآن أرسمه / على نوافذ ليلي حين توحشني}، وقد تكون الأم ذات الحصّة الأكبر، بين النساء، من المساحة المخصّصة للحنين في قلب الشاعر. وتستمرّ البصرة ساكبة في وجدان البطّاط عطاياها وأثمنها الشّعر الذي يرتفع نخلة تكسر سمّ صحراء الروح ولو أنّ ثمرها يحتضن ماءً حميماً نابعاً من أعماق الألم: {يا نخلة الشعر كم بوح نزفت به / قلباً تعشّش فيه روعة الشجن}. والموت لا يفارق لغة البصريّ المحترف الحبّ على كآبة موشومة بغربة الأنبياء لتغدو الأكفان وأوراق الكتابة على تداخل: {لكنّه الحزن قد ذابت به ولهاً / قصيدة العمر منذ ألبستُها كفني}.

    شعر حسام لطيف البطّاط هويّة عراقيّة وفنّية له. واللافت أنّ القصيدة العراقيّة في زمننا هي تأريخ عاطفيّ وجماليّ لكلّ عاصفة سوداء تمزّق سلام الماء، وطمأنينة النسيم العليل، وهناءة التراب في العراق.