أصبح تعبير الـ"NEW LOOK" اصطلاحاً شائعاً في حياتنا المعاصرة، وهو يعني عمليات التجميل التي لجأت إليها الفنانات مع تقدم العمر وشحوب الوجه، والتجاعيد التي تترك بصماتها على وجوههن، وما لبث أن لجأ إليها الفنانون، فالمكياج الذي كان ولا يزال يتم قبل التصوير لم يعد كافياً لإخفاء عيوب السن وتداعياتها.

Ad

إلا أن الأمر يختلف تماماً عندما نصف محاكمة قضائية بهذا الاصطلاح، لأن المحاكم لا تتجمل، إنها رسالة القضاء التي حملها الأنبياء والرسل، وإن العدل هو الغاية الأسمى والأجل، غاية الإنسان وغاية المجتمع، وإن خير ضمانات القاضي هي تلك التي يستمدها من قرارة نفسه، وخير حصن يلجأ إليه هو ضميره.

إنها رسالة القضاء التي يحملونها، وإنها الأمانة التي يجب أن يؤدوها متحررين من كل الضغوط أو القيود أو المؤثرات أو الإغراءات، لا تضعفهم رغبة أو ترهبهم رهبة، غير مبالين بما يحفّ بهم من مكاره، فذلك قدرهم وتلك مهمتهم، وهذا نبض حياتهم، ولن يحمل أحد عنهم وزرهم إذا حادوا عن الحق أو تنكبوا العدل.

محاكمة القرن الحدث الجديد

ولكن ما حدث في المحاكمة القضائية التي تعتبر حدثاً جديداً وفريداً في المحاكمة التي يحاكم فيها الآن رئيس مصر الأسبق محمد حسني مبارك ونجلاه علاء وجمال، ووزير داخليته حبيب العادلي ومساعداه، فيما يعرف بمحاكمة القرن في جريمة قتل المتظاهرين في 28 يناير 2011، والتي يترأس المحكمة فيها مستشار جليل هو المستشار محمود كامل الرشيدي، فهي محاكمة من طراز جديد يخرج فيها المتهمون تباعا من قفص الاتهام، يعرض فيها كل منهم روائع البينات فيما لم يسبق إليه أحد من المتهمين في الجرائم السياسية وغيرها، منذ أن عرفت مصر هذه الجرائم في عصرها الحديث، والمستشار الجليل يؤكد لكل متهم وأكثر من مرة أن الوقت مفتوح أمامه وبلا حدود، حتى يستوفي دفاعه كاملاً، لأن المستشار الجليل لا يريد أن يلقى ربه وقد حرم المتهم من سرد كل ما يريد الاستناد إليه في دفاعه.

وقد جرت المحاكمة كاملة بالصوت والصورة على الفضائيات والكاميرا تنتقل ما بين المتهم الذي يحاكَم والمتهمين في قفص الاتهام والمستشار رئيس المحكمة، ومشاعره التي لم يستطع أن يخفيها بين الابتسامة التي تعبر عن رضاء القاضي بما يسمعه أو مشاعر الأسى، حتى قيل إنه دمعت عيناه وهو يستمع إلى مرافعة أحد المتهمين، وهو ما نفاه في تصريح له.

وكانت محكمة النقض قد ألغت الحكم الذي أصدرته دائرة أخرى برئاسة المستشار الجليل أحمد رفعت في الطعون التي قدمت أمامها من النيابة العامة، ومن بعض المتهمين الذين حكم عليهم بالسجن.

قد أصدرت المحكمة بعد سماعها لكل هذه المرافعات والتي سبقتها مرافعة النيابة العامة بطبيعة الحال قرارها القاضي بحجز الدعوى للحكم.

محاكمة تدخل في موسوعة غنيس

فهي محاكمة من طراز جديد يمكن أن تدخل موسوعة غنيس، فلم يسبق كفالة حق الدفاع وحرية الدفاع في أي محاكمة في إحدى الجرائم بهذا القدر من الاحترام والتقدير والتكريم والوقت غير المحدود للمتهمين، في أي بلد في العالم، ولهذا يحق لهذه المحاكمة أن تتبوأ مكانها اللائق بها في هذه الموسوعة.

ولو كنا في النظام الأنجلوسكسوني لاعتبرت هذه المحاكمة سابقة قضائية يستند إليها المتهمون في كل قضية للخروج من قفص الاتهام والدفاع عن أنفسهم دون التقيد بوقت.

ولهذا أستميح قضاءنا المصري الشامخ في مصر عذراً في أن استخدمت هذا التعبير الإنكليزي NEW LOOK في وصف المحاكمة القضائية المذكورة.

ولا أستطيع أن أصف هذا القاضي الجليل إلا بما وصفه به شيخ قضاة مصر الأجل، أول رئيس لمحكمة النقض المصرية المرحوم عبدالعزيز باشا فهمي عندما سئل عن القاضي الحق فقال: إنه من اتسع صدره عندما تضيق صدور الآخرين.

ولئن كان رجال القضاء هم جزء من نسيج المجتمع الذي يحمل مشاعر الغضب ذاتها لدماء الشهداء، كما أن القصاص لدماء الشهداء هو مطلب شعبي، فإنهم في حصنهم الحصين وعلى منصة القضاء مطالبون بألا ينساقوا وراء مشاعرهم الغاضبة في أحكامهم التي هم فيها مدينون لربهم وضمائرهم.

وهذا ما أرسته أحكام القضاء في مصر عندما اجتازت حاجز الكراهية والخوف في عدد من القضايا التي كانت تشغل الرأي العام.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.