تستحقّ ظاهرة توقيع الكتب الموسميّة النظر إليها قليلاً سواء من جهة الموقّع لهم، وفيهم المبتلى بسعر كتاب لن يقرأه، أو من جهة الموقّعين وفيهم المبتلي والمبتلى في آن، باعتبار أنّه ليس من الذين جاد عليهم الله بموهبة الكتابة فيجد نفسه محرجاً يخيط لنفسه عباءة من ورق التين المخصّص لستر العورات الثقافيّة، غير أنّه مستميت ليقرأ اسمه على بطاقة دعوة، ويحظى بلقب أستاذ أو شاعر. وكم أنت مسكين أيّها الشعر، وكم يبكي حائطك ارتفاعاً قضمته المباخر لبنة بعد لبنة، وهي في أيدي مبخّرين لو كان النقد رجلاً لقتلوه.

Ad

الكتاب شهيّ. متعة أن يشترى بورق زائل لأجل ورقٍ باقٍ. ومتعة أن يعيش معنا في بيوتنا ويكون له مطرح في مكتبة مثلما لنا متّسع في سرير أو على شرفة. المتعة الكبرى هي في أن يسيل الإنسان من يراعه على الورق فيكون له بيت ثانٍ حميم جدًّا ولو باستطاعة زخّة مطر الذهاب به.

وصار عندنا للكتاب معارض سنويّة، فيها تصطدم كتف بكتف فيحدث عناق بعد غيبة سنة أو أكثر، وفيها عيون تتأنّى في النظر لاصطياد العنوان المناسب فتسرع الأيدي تقلّب الأوراق متّكلة على صدق العناوين، وفيها تتمّ أجمل المقايضات التي تذكّر بالخيّام قائلاً: «عجبتُ للخمّار هل يشتري / بماله أثمن ممّا يبيع». وما يميّز المعارض ظاهرة توقيع الكتب، وقد أمست نشاطًا معرضيّاً ثقافياً، ومن فضائلها أنّها تأتي إلى غابات الكتب بأناس ربّما لا يحسنون الكتابة والقراءة، وبآخرين حملة شهادات لا يقرأون، وهؤلاء وأولئك أتوا إكراماً للمؤلّف، ولأنّهم لا يريدون أن يروه «مقطوعاً» وراء طاولة التوقيع، أو هو بالأحرى يخشى ذلك فيسارع قبل التوقيع، ربّما بسنة، إلى قرع الجرس و{لمّ الشمل».

بعيداً من ساحة الشعر والأدب، لا أسمح لنفسي بحمل غربالي المتواضع، القابلة ثقوبه لكلّ أخذ وردّ، ولذلك أشعر بكثير من الرغبة في الدلّ بالإصبع على أيّ غيمة كاذبة، ومزغولة المطر، إن استطاعته، وقد «حَشَرَت» نفسها في قطيع الغيم المحسوب على الكلمة التي تقطر ندى الجمال.

كلّ من يملك قلم «بيك» ودفتراً، وحلم مساءً أن يكون شاعراً، يستيقظ مقنعاً نفسه بأنّه تقمّص المتنبّي وحصانه، ويشوّه بياض الورق بلا رحمة، ويفاوض «المطبعجيّ» قبل إنهاء الكتاب. فلا صاحب المطبعة يهمّه ماذا يطبع، ولو همّه لافتقر. ولا صاحب المعرض يتذوّق بضاعة قبل تسويقها، ولا الناس المحرَجون بالدعوة لهم أن يشترطوا معلنين أنهم يلبّون لأجل الكتاب وليس مسايرة لصاحبه. ولا الصحافة تمرّ كتاباً على «المعاينة»، وأعتقد أن معاينة كتاب لا تقلّ أهميّة عن معاينة ميكانيك سيّارة. فكما هي إن كانت معطّلة «الإشارة» تتسبّب بحادث، فإن كتاباً رديئاً يسيء إلى مزاج القرّاء، وكثرة الرداءة تحوّلنا مع مرور الوقت إلى مؤلّفين بلا قرّاء، فالناس لم يعد لهم الوقت ولا الرغبة للبحث الطويل عن كتاب يُقرأ في بيدر كتب ليت أصحابها يتبرّعون بها لأهل القرى النائية العاجزين عن شراء تنكة مازوت شتاءً، فيُذكَرون بالخير بدل أن يُذكَروا بغيره.

وإذا كان الكتاب مظلوماً من الدخلاء ومشتهي الشعر والأدب، فإنه مظلوم أيضاً من أهله. فالسواد الأعظم من شعرائنا يتجه إلى أن يكون سواداً أعظم بالمعنى المباشر للكلام. ولا يُفهَم كيف يستطيب شاعر التوقيع سنوياً فيبيض كلّ سنة ديواناً أو أكثر. وسرعان ما يكتشف الموقَّع له، العارف طعم فمه، وهو يقلّب أوراق الديوان، منتظراً دوره في الصف الطويل، أن الشاعر لا يحترم نصّه، وقد تنازل عن مستواه، فأرسل سهامه إلى طرائد هزيلة لا تصلح للتباهي، وقصّر رحلة الصيد بصنّارة الحبر التي لا تصل إلى غريب السّمك اللابس ألوان قوس قزح إلاّ بعد هدر وقت طويل، لا أجمل من إنفاقه في سبيل الوصول إلى كوخ متواضع بعيد، تسكنه القصيدة وظلالها.

لقب شاعر

نفهم تماماً لماذا يلجأ مشتهو الشعر، فاقدو الموهبة، إلى الاستماتة للحصول على لقب شاعر، وفي النهاية ربما إن كتبوا يكون في كتابتهم خير، فالكتابة مهما تدنّت أفضل من السرقة وإدمان المخدّرات، أمّا الذي لا يُفهَم فهو تفضيل شعرائنا الكميّة على النوعيّة، كأنهم ما عادوا مؤمنين بقارئ خبير يقيس أجنحة الكلمات بخفقان قلبه، ويعرف الحصى في الشبكة من صغير السمك، ويحكم وإن كان حكمه غير ملزم كأحكام محكمة لاهاي الدولية.

ظاهرة توقيع الكتب في المعارض، في حدّ ذاتها، حركة ثقافيّة إيجابيّة، ومعارض الكتاب قصور أهل الفكر والجمال، وهي المنصة الأشهى لإطلاق مركبة القصيدة بعيداً نحو كواكب قصيّة طالما انتظرت الأرض شعراء يكتشفونها بأقلامهم الخضر. غير أن المطلوب هو تهيّب الدخول إلى حرم الكلمة، واحترام الشاعر نصّه خدمة للشعر الذي لم يكن لبنان يوماً سوى قلعة من قلاعه يؤمّها شعراء العرب والعالم رافعين القبّعات عند أبوابها الشاهقة. يجب أن نعترف، وبكلّ صدق، أنّنا كلبنانيين الآن، نعيش فوضى ثقافية، وشحّاً خلاّقاً، مع الاعتراف بأن عندنا كبار شعر، ولو كانوا لا يتجاوزون عدد أصابع اليد، وموهوبي شعر يبدو أنّهم كثيرون، وهم في أمسّ الحاجة إلى من يعلّمهم أن الدخول من الباب الواسع يوصل إلى الهلاك، ووحده الباب الضيّق خلفه حديقة القصيدة التي لا تذبل شعرة من شعرها الطويل.

فليعد النقد سيّداً وقوراً. النقد الذي قضى بدخان المباخر. النقد الذي أمسى ضيفاً ثقيلاً أينما حلّ لأنّه يمشي مخاصراً الحقيقة التي لا تريد شيئاً لنفسها.

النقد، وحده، يصلح قائداً لـ{تايتانيك» القصيدة، التي إن غرقت أكثر فقد يصل الماء إلى رأس حصان المتنبّي ورأس المتنبّي أيضاً.