لا أعتقد أن هناك رواية تجعلك في حالة ابتسام دائم، بل قد تأخذك إلى قهقهات مفعمة بالخبث، مثل رواية «اشتهاء» للروائي السوداني أمير تاج السرّ. إذ سرعان ما تكتشف أن الأسلوب الذي كُتبتْ به، وليس الحكاية، هو عمودها الحقيقي وفيه يكمن سرّ جاذبيتها الآسرة. وعليه فأعتقد أن هذه الرواية بلغتها الخاصة جداً وصياغتها الساحرة جداً لا تصلح للترجمة على الإطلاق. إذ قد تطيح الترجمة تلك النكهة اللذيذة التي تشبه نكهة بهارات حاذقة، لا يجيد مزجها وتذوقها غير عطارين راسخين في فن المزج والطحن والنخل.

Ad

حمداً لله أنه لاتزال هناك قرى وبلدات وريف وذاكرة تحفظ مفرداتهما، وتحيك من أجوائهما عوالم لا تنضب من الحكايات والشخوص والمشاهد الخصبة والألوان الفاقعة والمشاعر الفطرية. وحمداً لله أنه لايزال في مشاريع الكتابة الإبداعية زمنٌ للقرية، ولتضاريسها وبؤسها وبدائيتها وسذاجتها وإنسانها، ولنمائمها المطبوخة بليل، ولحرائقها الصغيرة، ولطقوسها الطاعنة في الخرافة والسحر.

 ذكرتني أجواء قرى السودان الشمالي والشرقي الحاضرة في رواية «اشتهاء»، بلوحات الفنان السوداني راشد دياب، حيث النساء السودانيات المموهات بألوان ملاآتهن، متلاصقات في سرب، أو متناثرات في أفق يراوغه رملٌ أصفر، ووراءهن دائماً ذلك الخلاء الأشدّ مراوغة، وذلك الغموض الذي لا تُفكّ طلاسمه. وأكاد ألمح من خلال نسوة اللوحات اللاتي أولين ظهورهن للرائي، طيف «حورية مصلح» بطلة «اشتهاء»، بملآة حمراء فاقعة على عادتها في الزركشة والتبرج وفوحانها بالعطور المعتقة. امرأة شكّلتها جينات وراثية ملونة، وأخصبتها التجارب، وزودتها مصادفات التنشئة بقوة الشكيمة والتمكّن والسلاطة والإغواء والشقاوة القارحة. هذا النموذج من النساء ربما يستحضر في الذهن شخصية «بنت مجذوب» في رواية الطيّب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال»، حيث الجرأة الساطعة في تداول ما يخصّ الرغائب والغرائز، وارتياد الطرق المتاحة للتعبير عنها في لغة الجسد أو اللسان.

 لم يكن «الشاطر» تاجر البلدة، ولا «محجوب» الصائغ، ولا سيرة الأزواج الأربعة السابقين، ولا حتى «الغشيم كرو» خادمها المجنون، بقادرين على كبح جماح «حورية مصلح» بأي شأن صغر أو كبُر من نزواتها المتحفّزة، التي كانت حديث البلدة وزادها اليومي. كان يكفيها إن لم تستخدم سحرها الأنثوي، أن تلجأ إلى ساحرة البلدة «بديعة حسّاب» فتطبخ لها ما تشاء من أدوات السحر وفنونه، فيقع من يقع في شباكها المنصوبة، وكان آخرهم «عبدالنبي سمارة» المدرّس الشمالي الذي وفد حديثاً إلى البلدة للعمل في مدرستها الابتدائية. ما حصل بعد ذلك في سياق الحكاية ليس مهماً، ولن يغيّر حالة «الاشتهاء الشبقي المتآمر» التي وقع «عبدالنبي» ضحية لها. ولن يغيّر «الحالة» قدوم «آل سمارة» لانقاذ ولدهم أيضاً. فالحكاية بقيت مفتوحة النهاية وبقي النص كما أراد له الكاتب مفتوحاً «على مصراعيه، مفتوحٌ بلا باب يغلق حبر اندلاقه، ولا نافذة تصدّ وجع حروفه، ضائعٌ هكذا في العراء...». ربما ليحاكي زمن القرية الروتيني المكرّر وحكاياتها الدائرية اللامنتهية.

أما الأهم في الرواية، فهو بناؤها على تقنية التصوير والاشتغال المتأني على حياكة المشاهد، سواء ما يخص رسم الشخصيات بكل دهاليزها النفسية وتهاويمها ولغتها الجسدية، أو ما يخص رسم صور المكان والولوج إلى روح البيئة بكل عبقها ومحليتها الصرفة. ولعل ما يعزّز صدق المعايشة والاندغام في هذا الطقس، قول المؤلف في تقديمه لروايته: «هذا النص مستوحى من قصة حقيقية عايشتُ بعض وقائعها».

ويظل الأكثر جذباً في هذه الرواية هو أسلوبها الساخر الممعن في الظرف، المتهكّم الممعن في الطرافة، المضحك حدّ المتعة. لكأن النص لوحة  كاريكاتيرية ممتدّة لا تملّ التأمّل في تفاصيلها المتقنة، ولاخطوطها التي تأخذك إلى المزيد من الابتسام. وفن الكاريكاتير هو أن ترسم الملامح أضخم من الحقيقة أو أضأل منها، محاولاً أن تلتقط المفارقات بقدر من المبالغة، بهدف إثارة الضحك واستثارة روح الدعابة. وهكذا جاء نص «اشتهاء» مدعماً بتلك المبالغات الطريفة المنتمية بجدارة إلى فن الكاريكاتير.

في رواية «اشتهاء» كانت خفة الظل هي سيدة الموقف، وكانت بحق فاتحة للشهية، ومفجّرة لاشتهاءات أخرى في فن الكتابة.