{أبو الهول} المصري في الصين... جنون الاستنساخ الأثري

تكمن قيمة الفيلسوف فالتر يامين في أنه استحدث مفهوماً إجرائياً، استتب وشاع في دراسات الفن السوسيولوجية، وهو مفهوم العبق (aura)، أو ما يميز الأعمال الفنية التي يغلفها نوع من الهيبة بفعل تفردها وثقل الدور الشعائري الذي تؤديه في المجتمع. ونتيجة للتطور التكنولوجي والاتصال، بدأت الفنون منذ عصر النهضة، بالتخفف من هذا التفرد حتى قضي عليه تماماً في العصر الحديث من خلال وسائل الاستنساخ الآلي.

 أدى تطور تقنيات الاستنساخ إلى تغيير إنتاج الأعمال الفنية جذرياً، فأصبح من الممكن صناعة صور شديدة التطابق لا حصر لها من أصل لوحة أو تمثال. ولكن مهما تضاهت النسخة المنقولة من العمل الفني مع الأصل، فإنها تبقى تفتقد إلى عنصرين هما الزمان والمكان. وتؤدي تعددية النسخ التي يسمح بها الاستنساخ إلى خروج العمل الفني من محيطه الخاص إلى مجال عام يسمح للمتلقي باستقباله في أي مكان، وقد أدى هذا الأمر إلى زلزلة الموروث الثقافي.

 لا يتعلق الاستنساخ اليوم باللوحات الفنية التشكيلية أو تمثال فينوس أو أي عملي فني له دلالته، الأمر تخطى ذلك بكثير في زمن العولمة، والصين أبرز ما ينطبق عليه الفعل الاستنساخي. بات هذا البلد التنين والمارد وحشاً في تقليد كل شيء. نعلم أن الصين تملك قدرة على استنساخ بعض الأجهزة التقنية مثل الأجهزة اللوحية والحاسبات والساعات والهواتف المحمولة والألعاب وحتى حافلات النقل. وقد أثارت الصين دهشة العالم وأربكته بسبب سرعتها في تقليد المنتجات التقنية. ويبدو أن أمور التصنيع والاستنساخ تعدت ذلك بأشواط عدة في الصين، التي بات لديها فائض قدرة في هذا المجال. لنقل إنها تبحث عن التجارة ولا يعنيها أن تستنسخ الأعمال الفنية والتشكيلية وحتى السينمائية الجدية، فهذا الأمر لا جدوى منه تجارياً. ولكن هي تقوم بما هو أعمق من ذلك وبما يشكل تحدياً للعالم وزعزعة لبعض البلدان السياحية، إذ تصوِّر أهم المدن الأوروبية مثل برشلونة والبندقية بطريقة ثلاثية الأبعاد وتنقلها بتفاصيلها إلى الصين، وتختار منها تحديداً الأحياء الأثرية والراقية، وهي بذلك {تنتهك} حضارة هذه المدن من جهة، وتقدم دعاية لها في الوقت نفسه.

انفجار النسخ

استنساخ المدن الأوروبية وحتى الأميركية لا يقتصر على مدينة أو حي... وجاء في أحد التقارير، أن الصين تتعمد استنساخ مدن العالم على أراضيها لانتشار ظاهرة صينية تسمى {البلدات المستنسخة}، وأبرزها: مدينة هالشتات الجبلية النمساوية، وانتينج تاون الألمانية، ودور تشستر الإنكليزية}. وبالنسبة إلى المعالم التاريخية والأثرية نجح الصينيون في استنساخ كل من، {برج إيفيل، وتاج محل، ونافورة من فرساي، وتمثال ونستون تشرشل، وكنيسة بريستول}. ويقترب البلد من افتتاح مدينة على غرار {مانهاتن} الأميركية. عموماً، امتلأ السجل الصيني بسرقة الآثار وأبرز معالم المدن حول العالم، حتى وصلت الأمور إلى {أبي الهول} المصري، وعلى خلفية استنساخه رفعت وزارة الآثار المصرية شكوى إلى منظمة اليونيسكو، فقررت الصين هدم تلك النسخة، وفقاً لما ذكرته وكالة أنباء شينخوا الرسمية. وأفاد مسؤول صيني أن {النسخة المقلدة من {أبي الهول} لم تكن إلا بغرض الاستعمال في مشاهد موقتة لأفلام سينمائية ودراما تلفزيونية}، بحسب صحيفة {ذي ديلي تيليغراف} بنسختها الأسترالية... لا شيء اسمه الملكية الفكرية في الصين، بل ثمة شيء اسمه هوس الصناعة والاستنساخ، وكل شيء أصيل يمكن أن يفقد {أصالته} في الصين، من الـ{تي شيرت} إلى المدن، وحتى غشاء البكارة التي بدأت بتصديره بثمن بخس.

العبرة من الاستنساخ الصيني وجدناها في تصريحات المهندسة العراقية الأصل زها حديد، فخلال زيارتها إلى الصين، احتشد نحو خمسة عشر ألف فنان ومعماري في محاضرة ألقتها بمناسبة افتتاح مجمع {غالاكسي سوهو} المستقبلي، وهو واحد من أحد عشر مشروعاً تصممها في الصين. ولكن الغرام بتصميمات حديد الحاصلة على جائزة {بريتسكر للعمارة التجريبية}، وصل إلى حد الانفجار، حيث يعمل راهناً فيلق من قراصنة المعماريين والإنشائيين على إقامة نسخ طبق الأصل من المشاريع التي تقيمها حديد في بكين ولكن في جنوب الصين.

الأدهى من ذلك، حسب حديد، أنها صارت مضطرة الآن إلى مسابقة هؤلاء القراصنة لتكمل مشروعها الأصلي أولاً. أصدرت حديد خطاباً مفتوحاً تطلب فيه المساعدة على مقاومة عملية التزوير الضخمة الجارية وجاء في خطابها قولها: {يقول الجميع  إن الصين بلد عظيم القدرة على التقليد وإن كل شيء قابل فيه للاستنساخ}...

يسمي البعض ما يحصل في الصين بأنه جزء من ثقافة الفوضى وربما ثقافة العولمة، فثمة من سبق الصين في هذا المجال من أميركا إلى اليابان، وثمة أشخاص لا يترددون في استنساخ بعض المعالم مثل البيت الأبيض الأميركي كنوع من الـ{برستيج» والشهرة، حتى لم يعد بمقدور المدن الأثرية المعروفة الصمود بعبقها أمام التحولات العالمية، إذ يمكن لأبي الهول التقليدي أن ينتصر على أبي الهول الأصلي من حيث استقطاب عدد السياح، ولكن مشكلة المدن المستنسخة، كما كل شيء مستنسخ، أنها تفتقد إلى الذاكرة والعبق والعمق، وسرعان ما تترهل، وربما يفكر أصحابها في لحظة بإزالتها لأجل مشروع جديد.

والخوف من أن تبدأ الصين في استنساخ الشخصيات العبقرية في العالم فيصبح لديها آينشتاين وأديسون ومدام كوري... لتصبح الصين هي العالم، والعالم هو الصين!