حقيقة رامبو وأسطورته

نشر في 12-12-2013 | 00:02
آخر تحديث 12-12-2013 | 00:02
No Image Caption
ثمة مبالغات دائمة في توصيف الشاعر الفرنسي أرتور رامبو، مبالغات تدل على خواء من يكتبها، ودائماً يوصف هذا الشاعر بكلمات {ما فوق المتوقع}، كأنه كتب الشعر وكسر القالب... والراجح أن معظم الذين يبالغون في توصيف رامبو مبهورون بحياته أكثر من شعره.
لا أحد ينكر أن أهمية الشاعر رامبو، لكن أن يصبح في ذهن البعض أن لا أحد من بعده، ففي هذا إهانة لمئات الشعراء الكبار في الشرق الغرب. وقراءة الشعر قبل كل شيء مزاج ولا تتعلق بهذا الشاعر أو ذاك.

 اللافت أنه خلال سنوات قليلة صدرت أعمال رامبو الكاملة في ثلاث ترجمات مختلفة إلى العربية، الأولى للشاعر العراقي كاظم جهاد وقد تحدثنا عنها سابقاً، والثانية للشاعر المصري رفعت سلام عن {الهيئة العامة للكتاب} في مصر والثالثة لهيام النابلسي عن منشورات «المدى». وكل مترجم يحاول أن يقدم المزيد عن هذا الشاعر، أو يبرر سبب إقدامه على هذه الترجمة بدءاً من رمسيس يونان وخليل خوري وصدقي اسماعيل... ثم كاظم جهاد ورفعت سلام الذي تقع ترجمته في 640 صفحة من القطع الكبير، متضمنة ملفاً لصور رامبو في مراحل حياته المختلفة، ورسوماً رسمها أو رسمها له أصدقاء وفنانون، من بينهم فيرلين وليجيه وبيكاسو ما قبل الشعر.

 تتصدر الكتاب ثلاث مقدمات، كتب الأولى المترجم وتتعلق بمنهج الترجمة وبعض ملامح السيرة الإبداعية لرامبو، فضلاً عن بضع ملاحظات على الترجمات السابقة. وتمثل المقدمة الثانية سيرة ذاتية وشعرية لتحولات رامبو، سواء خلال إقامته في فرنسا أو بعد مغادرتها إلى عدن وهراري. أما المقدمة الثالثة، فهي ترجمة لما كتبه بول فيرلين (أخلص أصدقاء رامبو) عن شعرية رامبو.

كتابات مدرسية

يبدأ القسم الشعري من الكتاب بالكتابات المدرسية المستمدة من كراسات رامبو، والتي كتبها كنوع من {الواجب المدرسي}، في مادة {البلاغة}. ثم تأتي كتاباته الأولى: {نثريات إنجيلية}، {سردية}، {قلبٌ تحت جُبة كاهن}، {صحارى الحب}، التي تتسم بسردية شعرية يعتبرها البعض بدايةً لقصيدة النثر لديه، واستكشافاً للإمكانات الشعرية الكامنة في السرد النثري. ويضم قسم {القصائد} ما تلا هذه المرحلة من نصوص شعرية {موزونة}، هي التي منحته المكانة المرموقة في تاريخ الشعر الفرنسي، منذ قصيدته {هدايا الأيتام في عيد الميلاد}، أولى قصائده المنشورة، مروراً بقصائده الشهيرة، وصولاً إلى آخر قصيدة كتبها في حياته، ولم يسبق ترجمتها إلى العربية. ويقدم قسما {الألبوم الملعون} و«البذاءات} أيضاً ما لم يسبق ترجمته إلى العربية، واستبعده المترجمون العرب من ترجماتهم لأعمال رامبو وتعتبر هذه النصوص رديئة بحسب ما يقول أحد مترجمي رامبو، ولهذا لم يدخلها في أعماله الكاملة. أما هيام النابلسي فاختارت الأعمال الشعرية ولكنها ناقصة، الكتاب إلى سبعة مواسم: {الطفولة، الطريق المفتوح، الحرب، القلب المعذّب، الحالم، الروح المعذبة، بعض الجبن المتأخّر}.

في مقدّمة كتابها، تعتبر النابلسي أنّ هذه الترجمة كانت بمثابة مشروع العمر، علماً أنّها سبق أن ترجمت أعمالاً كثيرة. ففي عام 1976 ترجمت {أشعار الربّان} لبابلو نيرودا وقدّمتها لصديقها الشاعر الراحل محمد الماغوط، وكانت هي المرّة الأولى التي تترجم فيها شعراً. وحينها قال لها الماغوط: {كثيرون ترجموا نيرودا، فلماذا لا تترجمين أعمال رامبو؟ فهو لم يترجم بالكامل}. هكذا، ارتبطت بداية هذا العمل بإشارة من الشاعر السوري الكبير. لكنّ تحقّق الحلم لم يكن بالسهولة التي اعتقدتها، بحيث استغرق منها إنجاز ترجمة أشعار رامبو 31 عاماً. وتشير النابلسي إلى عدم قدرتها على ترجمة أكثر من أربعة أسطر في جلسة تدوم أربع ساعات. في ذلك دليل لا يوارب على صعوبة إدراك ظاهرة بحجم رامبو لغوياً وهو شاعر الإضاءات الطائش والمتحرّر من كل قيد: {ها هنا محاولة جديدة لنقل مواسم رامبو السبعة إلى العربية، للإحاطة برصيد {طفل شكسبير}، على ما أطلق عليه. كانت ترجمت خلالها الكثير من الكتب والقصص والشعر. لكنّ رامبو بقي بالنسبة إليّ مشروع العمر. كان شعره ينسرب داخلي ببطء ليعود فيولد ثانية محافظاً على كلّ قسماته وخصوصيته}.

الحقيقة والأسطورة

على هامش ذكر ترجمات رامبو لا بد من الحديث عن كتاب {آرتور رامبو: الحقيقة والأسطورة} للشاعر العراقي سامي مهدي. والكتاب، قراءة لسيرة رامبو وشعره وأقواله النظرية، ومحاولة لتعرية أساطيره والتلفيقات التي أحاطت به من بعض الدراسات، إلى جانب تأثره بالآخرين، من مثيل بودلير وفيكتور هوغو. يعتبر سامي مهدي أن كتابه {ليس محاولة للانتقاص من عبقرية رامبو الشعرية، كما قد يتوهم غلاة المعجبين به، بل هو مراجعة نقدية، غايتها الفصل بين حقيقة رامبو وأسطورته، أي فصل الحقيقة عن الأسطورة، ليكون إعجابنا بهذا الشاعر مبنيّاً على أساس موضوعي لا تداخله الأوهام. فرامبو، في نهاية الأمر، شاعر يمكن أن يدرس، وأن ينقد شعره، مثل غيره من الشعراء، وليس معبوداً مقدّساً يتسامى على الدرس والنقد}.

وينطلق المؤلف من ذاته قائلاً إنه «كان في شبابه ضحية تضليل متواتر»، جعله يعجب بأسطورة رامبو دون حقيقته، رغم ما بينهما من بون شاسع. ولما عزم على البحث مجدّداً وانصرف إلى مصادر رامبو العربية والفرنسية والإنكليزية وترجمة النصوص أحياناً، لم يجد «إلا ما يؤكّد أن رامبو الذي نعرفه ليس سوى أسطورة تضافر في نسجها مؤرّخوه وشارحوه ومفسّروه، ووشّاها الدارسون المتعجّلون والمعجبون المأخوذون، أما حقيقة رامبو فهي شيء آخر طغى عليه نسيج الأسطورة حتى غطّاه وأخفاه وحلَّ محله».

back to top