«لماذا اكتب»، إحدى أبرز المقالات التي كتبها أورويل سنة 1946 وباتت أحد العناوين البارزة التي طرحها وأجاد في الإجابة عنها، مفسراً نوازع الأشخاص الذين يكتبون ويطمحون إلى قول شيء في حياتهم أو في القضايا العامة، سواء كانت سياسية أو اجتماعية...

Ad

لطالما طرح السؤال العنوان في مقال أورويل على الشعراء والأدباء والروائيين والفلاسفة في العالم، وكانت لكل واحد إجابته الخاصة وأقواله المختلفة التي تعكس وجهة نظره أو طقسه في الكتابة والتدوين وإبداء الرأي. سؤال واضح بقدر ما هو مبهم، وأحياناً تكون الإجابة عنه: لا أعرف؟!

ويظهر من خلال كتاب أورويل «لماذا أكتب؟» ومقدمته التي كتبها مدوّن سيرته برنارد كريك أن فن المقالة ناسب أورويل إلى حد أنه يقول: «أكثر ما رغبت به هو أن أجعل من الكتابة السياسية فناً، ونقطة انطلاقي هي دائماً شعور من الحزبية والحسّ بالظلم. عندما أجلس لكتابة كتاب لا أقول لنفسي سأنتج عملاً فنياً، إنما أكتبه لأنّ ثمة كذبة أريد فضحها، أو حقيقة أريد إلقاء الضوء عليها، وهمي الوحيد أن أحصل على من يستمع. ولكن، ليس بإمكاني القيام بمهمة تأليف كتاب أو حتى مقالة طويلة لمجلة، لو لم تكن أيضاً تجربة جمالية».

سياسة

يشدد أورويل على الدافع السياسي في عملية الكتابة قائلاً: «لا يمكنني القول بيقين أي دافع من دوافعي هو الأقوى، لكنني أعلم أيها يستحق أن يتبع، وعند استرجاعي لعملي السابق يمكنني أن أرى، دون تباين، أنه حينما افتقرت إلى القصد السياسي كتبت كتباً بلا روح وخدعت إلى جمل قرمزية وجمل بلا معنى وصفات تزيينية وهراء بشكل عام». وبرزت في زمن صعود أورويل في الكتابة تيارات سياسية متضاربة ومتناقضة، بين نازية وفاشية وشيوعية ورأسمالية، فضلاً عن نشوب الحرب العالمية الثانية، وكانت كافية لطرح كثير من الأسئلة والآراء حول مصير الوجود والسياسات.

ويعدد أربعة دوافع على الأقل لكتابة النثر توجد بدرجات متفاوتة لدى كل كاتب: أولا «حب الذات الصرف: الرغبة في أن تبدو ذكياً... أن يتم الحديث عنك... أن تذكر بعد الموت...».

الدافع الثاني هو عنده «الحماس الجمالي: إدراك الجمال في العالم الخارجي أو، من ناحية أخرى، في الكلمات وترتيبها الصحيح... البهجة من أثر صوت واحد على الاخر»... أما الدافع الثالث فأسماه أورويل «الحافز التاريخي: الرغبة في رؤية الأشياء كما هي لاكتشاف حقائق صحيحة وحفظها من أجل استخدام الأجيال القادمة».

الدافع الرابع هو عنده «الهدف السياسي: باستخدام كلمة «سياسي» بأشمل معنى ممكن. الرغبة في دفع العالم في اتجاه معين: لتغيير أفكار الآخرين حول نوع المجتمع الذي ينبغي عليهم السعي نحوه».

يقول إنه في البداية كان شخصاً «ترجح فيه كفة الدوافع الثلاثة الأولى على كفة الرابع» أي «الدافع السياسي». بعدما واجه الفقر والفشل «تعاظمت كراهيتي الفطرية للسلطوية ووعيت للمرة الأولى بوجود الطبقات العاملة، لكن هذه التجارب لم تكن كافية لمنحي توجهاً سياسياً دقيقاً. بعدها جاء هتلر والحرب الإسبانية الأهلية (1936 – 1937) التي أدارت كفة الميزان، ومنذئذ عرفت أين أقف. كل سطر من العمل الجاد الذي كتبته منذ 1937 كتب بشكل مباشر أو غير مباشر ضد الشمولية ومن أجل الديمقراطية الاشتراكية كما أفهمها».

جورج أورويل القائل «إن النثر الجيد مثل لوح النافذة الزجاجي»، و”لقد صُمِّمت اللغة السياسية كي تجعل الأكاذيب تلبس ثوب الحقائق، وكي تقتل ما هو جدير بالاحترام»، استطاع، في روايتيه الأخيرتين، أن يحيل الكتابة السياسية إلى فن كما أراد وعبّر في كتابه «لماذا أكتب؟».

يجمع بين هاتين الروايتين أنهما من أنواع الكتابة الرمزية السياسية التي يدور محورها الأساسي حول «الاستبداد السياسي» الذي يستخدم أداتين أساسيتين لتحقيق أغراضه: الإعلام الذي يروج للشعارات البراقة الكاذبة، مع الإرهاب والقمع البوليسي.

ففي «مزرعة الحيوانات» يبني أورويل عالماً متخيلا من الحيوانات يسرد فيه تاريخ الثورة البلشفية، وكيف انتهت بها الحال في إطار الإرهاب الستاليني، وقد ترجمت تلك الرواية مرتين إلى العربية.

أما رواية «1984» فتدور في إطار تخيلي أيضاً لكنه مستقبلي، يماثل فيه أورويل بين أشكال الأنظمة الاستبدادية كافة، سواء الشيوعية أو النازية والفاشية وبين عالمه المتخيل، القائم على نظام الحزب الواحد الذي يتحكّم بحياة الناس وضمائرهم.

مزرعة الحيوانات

حين كتب أورويل «مزرعة الحيوانات» بوصفها «أول كتاب حاولت فيه، بوعي كامل لما أقوم به، أن أدمج السياسي والهدف الفني في بوتقة واحدة»، كما سيقول أورويل نفسه في نص عن الكتاب جاء في كتابه «لماذا أكتب؟» ثم كتب موضحاً غرض كتابة «مزرعة الحيوانات» وظروفها: «خلال السنوات العشر الأخيرة بت على قناعة تامة بأن نزع القناع الواقي عن خرافة السوفيات، أمر ضروري إن كنا نريد حقاً إعادة الحياة إلى الحركة الاشتراكية».

 ويتابع: «عند عودتي من إسبانيا، وجدت أن بإمكاني أن أكشف حقيقة الخرافة السوفيتية الستالينية في قصة يمكن أي امرئ أن يفهمها بسهولة... كما يمكن نقلها إلى اللغات الأخرى».

ومن خلال العملين صار أورويل مشهوراً ككاتب سياسي أكثر من روائي، وما زال حتى الآن مثيراً للجدل، سواء في ولائه السياسي أو عدائه للستالينية والفرنكوية، كان يعتبر أن الستالينية والفاشية واليمين الأميركي ثلاثة وجوه لعملة واحدة، ومع كل حدث سياسي عالمي تستحضر روايات أورويل كمعبّر رمزي عما يحصل.