بمجرد أن بدأت النيران تلتهم المكان، أشار المخرج لمديحة إلى أن تخرج خوفاً من أن يسقط سقف الشاليه المحترق عليها، إلا أنها لم تستمع إليه، ثم فجأه حال الدخان والنيران دون تحديد مكانها، فطلب عز من أحد رجال المطافئ أن يتسلل ليسحبها إلى الخارج، وعندما دخل وجد مديحة في حالة إغماء، على الفور بدأوا إسعافها وبصعوبة شديدة تمت إفاقتها،  فنقلها المخرج إلى أقرب مستشفى وخضعت لفحص كامل للاطمئنان عليها، وهناك زف لها الطبيب بشرى حدث سعيد في انتظارها.

Ad

في البداية، لم تصدق مديحة ما قاله الطبيب، فأعاد الأمر عليها مراراً وتكراراً، وفي كل مرة كانت تطلب منه أن يقسم لها بأن ما أخبرها به صحيح، ثم غادرت المستشفى، وركضت إلى فوزي تزف له بشرى الخبر السعيد.

مديحة: محمد عندي لك خبر سعيد.

فوزي باهتمام: خير يا مديحة في إيه.

مديحة بدلال: حزر فزر؟

فوزي وهو يحاول توقع الخبر: ممم مش عارف أحزر، قولي أنت يا ديحة.

مديحة بإصرار: لا أنا مش حأقولك لازم أنت تحزر.

فوزي وقد بدأ صبره ينفد: غلب حماري خلاص قولي أنت.

مديحة: أنا وأنت خلاص حنبقى تلاتة.

لحظة صمت مرت عليهما قبل أن يستوعب فوزي ما قالته مديحة: أنت متأكدة، بجد؟ طيب عرفتي منين؟

حكت له مديحة ما حدث لها، فما كان منه إلا أن اصطحبها إلى طبيبها الخاص، ليؤكد له الخبر، ويتابع حالتها وحالة الجنين وهو في أسابيعه الأولى، خوفاً من تعرضها لأي مشكلة قد تسبب في سقوط الحمل أو إصابة الجنين بمكروه، وبالفعل نصحها الطبيب بأن تلتزم الراحة التامة، خصوصاً في الأشهر الأولى. نفذت مديحة تعليمات طبيبها تجنباً للمشاكل، حتى وضعت ابنها عمرو في يونيو 1955.

ملأ عمرو حياة مديحة سعادة وهناء، كذلك فوزي، رغم أنه سبق أن ذاق طعم الأبوة، إلا أنه كان سعيداً ليس لأن هذا القادم سيوثق ارتباطه بمديحة فحسب، بل لأنه كان يعشق الأطفال، ما يفسر تقديمه الأغنية الخاصة بالأطفال {ذهب الليل وطلع الفجر}.

لحظات الغضب

تصور فوزي أن مديحة ستتفرغ لابنهما عمرو وتبتعد عن الفن مرحلياً على الأقل، بعدما قدمت فيلمها {إني راحلة} الذي اعتبره النقاد إعادة لاكتشاف موهبتها. باختصار، تصور أنها ستتوقف حتى يعرض عليها ما يدفعها فنياً إلى الأمام، وفي الوقت نفسه، تكون قد أعطت ابنهما الرعاية التي يستحقها، إلا أنه فوجئ بتعاقدها على فيلم {قتلت زوجتي} مع عماد حمدي مجدداً، إخراج كمال عطية، وهو مخرج وكاتب سيناريو بدأ حياته الفنية بكتابة الأغنية والمقالات الأدبية في بعض الجرائد، وفي عام 1945 التحق بأستوديو مصر، وعمل مساعداً للمخرج صلاح أبو سيف قبل أن يخرج أفلاماً تسجيلية ثم روائية طويلة، وكان {قتلت زوجتي} ثاني أفلامه.

تدور الأحداث حول زوجين لم يرزقهما الله بالأبناء رغم مرور سنوات على زواجهما، فتحاصرهما إشاعات بأن الزوجة لم تنجب من زوجها عمداً لأنها ما زالت مغرمة بخطيبها السابق الذي عاد من السفر، فتساور الشكوك الزوج، ويحاول قتل زوجته، فيُقبض عليه ويثبت المحامي أن الزوجة لم تخن زوجها بعد أن يعترف الخطيب السابق العائد بالأمر، فيُحكم على الزوج بالسجن.

لم يتخيل فوزي أن تعهد مديحة رعاية طفلها الذي انتظرته إلى مربية لتستمرّ في عملها، يضاف إلى ذلك أنه {رجل فلاح}، يريد زوجته أن تكون إلى جواره وترعاه بشكل دائم، وإذا تحمل انشغال زوجته قبل أن تنجب ابنهما عمرو، إلا أن الأمر هذه المرة أثار حفيظته ولم يستطع كتمان غضبه.

في مساء أحد أيام عادت مديحة إلى المنزل متأخرة وكان فوزي ينتظرها والغضب يتطاير من عينيه.

بهدوء قالت: مساء الخير يا فوزي.

ردّ بحدة: أهلا مديحة هانم.

أدركت على الفور أن ثمة أمراً حدث وأصابه بهذا التوتر والغضب، فقالت على الفور وهي تهم بالصعود إلى حجرة ابنها مع مربيته:

- خير مالك؟ أنت كويس، عمرو بخير؟

وقبل أن تصعد الدرج استوقفها قائلا:

- وهو أنت تعرفي إيه عن ابنك يا هانم؟ أنت سايباه للمربية وكأنها أمه، طيب أنا وخلاص الظاهر مبقتش مهم، كمان ابنك اللي كنت بتترجيه من الدنيا؟

قبل أن ترد، تابع فوزي قائلا: بصي يا مديحة يا أنا وابنك يا السينما، أنا راجل دمي حامي ومقبلش مراتي تهمل بيتها وجوزها وابنها علشان شغلها، اختاري يا مديحة يا أنا يا الفن.

أدركت مديحة أن زوجها غاضب وأن رد فعله قد يحول الغضب إلى جحيم، لذا فضلت الردّ بهدوء: {إهدا يا محمد أنا عمري ما اهملت ابني ومش بتأخر كده كل يوم، وبتابع مع المربية طول الوقت}.

أضافت: بالنسبة لك أنا برضه عمري ما أهملتك ولا أهملت بيتي وقبل ما نتجوز أنت وعدتني أنك عمرك ما حتحطني في الاختيار ده أبداً، ووعد الحر دين عليه.

أنهت حديثها ثم صعدت إلى حجرة ابنها لتطمئن عليه، ثم بدلت ملابسها وعادت لتنام إلى جوار ابنها.

وفي الصباح اكتشفت أن فوزي أيضاً لم ينم في حجرتهما بل في إحدى حجرات الفيلا، وأنه غادر المنزل باكراً ومن دون أن يتناول الإفطار، وعند عودته في المساء تناول طعام العشاء منفرداً ولم ينتظرها، تكررت الحال على النحو نفسه أياماً، لم يتبادل الزوجان أي حديث، إلى أن قرأ ذات يوم في إحدى المجلات خبر انفصالهما، فأذاب الجليد بينهما، وسارع إلى مصالحة زوجته مديحة بمجرد نشر الخبر، فتقبلته مديحة عن طيب خاطر، لتنهي قبلة على جبينها خصام أيام طويلة، وتعود السعادة إلى المنزل بعد طول غياب.

حرص الزوجان على احتواء أي خلافات بينهما وإبقائها داخل جدران منزلهما وعلى ألا يستعينا بصديق، رغم كثرة أصدقائهما المشتركين، فاعتمدا السرية والكتمان والرغبة الصادقة في احتواء أي أزمات حتى تعود المياه إلى مجاريها، لذا لم يكن أي خلاف يتجاوز بضعة أيام يبتعدان خلالها حتى تهدأ الأجواء.

 كذلك حرصا ألا تتسرب أخبار عن حياتهما إلى الصحافة، مع ذلك كانت الصحف تتداول بعض الإشاعات، ما يضطرهما إلى نفيها عملياً، كإشاعة الانفصال، وذلك بأن يظهرا معا في أي مناسبة اجتماعية، إلا أن أكثر الإشاعات التي أغضبت فوزي أن مديحة هي التي تنفق على المنزل، باعتبارها أغزر إنتاجاً من فوزي، ما اضطرها إلى نفيها باستمرار، غير أنها لم تتمكن من وضع حد لهذه الإشاعات التي كانت تضايق زوجها.

المغامرة

خلال 1956 وقع العدوان الثلاثي على مصر، وتبعه قطع للعلاقات الدبلوماسية بين مصر والدول المعتدية وإغلاق كلي للموانئ والمطارات، فنزل خبر العدوان عليها كالصاعقة، إذ كانت تنتج {أرض الأحلام}،  أول فيلم سكوب بالألوان تشهده السينما المصرية، ولعدم توافر إمكانات تحميضه وطبعه بهذه التقنية السينمائية الجديدة في معامل السينما المصرية، خططت للقيام بذلك في العاصمة البريطانية لندن.

إعلان الحرب تبعته مشاكل كثيرة، ربما أبرزها توقف البنوك المصرية عن التعامل مع نظيرتها البريطانية، كذلك توقف تحويل الأموال إليها، وكانت الشركة التي اختارتها مديحة لتحميض الفيلم وطباعته،  متمسكة بالحصول على نصف مستحقاتها على الأقل قبل بدء عملها، والتأخر في السداد سيوقعها في مشاكل مع الموزعين، الذين وقعت معهم اتفاقات لعرض الفيلم.

فكرت كثيراً في كيفية التغلب على هذه المشاكل التي فاجأتها مرة واحدة، فقررت السفر إلى بيروت لإتمام التحويل النقدي من البنوك اللبنانية إلى البنوك البريطانية.

كان قرارها صعباً بسبب خطورة السفر بالطيران، في ظل اشتعال الحرب وما قد يمثل ذلك من خطورة على حياتها، وقد حذرها أصدقاء ومقربون منها، إلا أنها لم تلتفت إلى تحذيراتهم، وقررت إكمال مسيرتها وتحدي الظروف الصعبة.

أجرت اتصالاتها بوزارات الداخلية والسياحة والأجهزة الأمنية، وشرحت لهم الوضع وضرورة سفرها، فتفهموا وسمحوا لها بالسفر على متن أول باخرة متجهة إلى بيروت وكانت من ميناء الإسكندرية.

حزمت حقائبها وتوجهت إلى الإسكندرية فور صدور قرار السفر، وكانت رحلتها على متن الباخرة السودان، فحجزت تذكرتها، وكانت قلقة مما تردد حول تعرض قضبان السكك الحديد للتخريب بسبب غارات العدو، لكن لحسن حظها كانت القطارات تعمل، فغادرت إلى الإسكندرية بالقطار رغم صعوبة الرحلة، إذ تحرك بعد موعده المحدد بساعتين ووصل إلى الإسكندرية متاخراً.

وصلت مديحة إلى الميناء في اللحظات الأخيرة وقبل إغلاق باب الباخرة، التي كانت تستعد للإبحار، قفزت إلى داخلها، وعندما وصلت إلى حجرتها في المركب لم تصدق أنها استطاعت اللحاق بالرحلة، فتأخير القطار جعلها متوترة خوفاً من عدم اللحاق بالباخرة.

وما هي إلا دقائق حتى فوجئت بالقبطان يناديها عبر الميكرفون الداخلي، مؤكداً ضرورة حضورها إلى غرفة القبطان، فانتابتها حالة من الفزع، خوفاً من أن تكون ثمة أمور طرأت من دون أن تعرفها.

صعدت مديحة إلى سطح الباخرة، فيما دقات قلبها كانت مضطربة بسبب خوفها مما قد يخبرها به القبطان، وعندما شاهدها قال لها: {من فضلك يا مدام مديحة، الباخرة هي أول رحلة تغادر من الميناء بعد العدوان، وبالتأكيد سنتعرض لإنذارات كثيرة وتحرشات من دول العدوان لأن الحرب لا تزال مستمرة، ومن الممكن أن يتطور الموقف إلى الأسر أو إجبارنا على تغيير المسار والاتجاه إلى بلد آخر، وأنا بقولك الكلام ده لأنك المرأة المصرية الوحيدة الموجودة على متن الباخرة}.

تقول مديحة: أخبرت الكابتن بتمسكي بالاستمرار على متن الرحلة، فطلب مني أن أترك حجرتي الخاصة وابقى معهم في غرفة القيادة على أن ارتدي بنطلونا وبلوزة وسترة طوال الرحلة، وأن أتخلى عن ملابس النوم، لأن الموجودين على متن الباخرة معرضون للنزول في أي وقت وبأي مكان.

وبعد أن أنهى حديثه معي سألني بلغة يغلب عليها الحسم، هل ما زلت مصرة على استكمال الرحلة؟ فأجبته {آه طبعاً، وأعتقد أن المسؤولين في الحكومة تفهموا موقفي، ولهذا سمحوا لي بالسفر إلى الخارج في هذه الظروف}.

كل ما سمعته مديحة من الكابتن لم يجعلها تفكر في التراجع عن قرارها باستكمال الرحلة وتحت أي ظروف.

من جانبه أعجب طاقم الباخرة وفي مقدمه القبطان بردود مديحة وحماستها لاستكمال الرحلة، رغم المخاطر التي حذرها منها، شاهدت في أعين أفراد الطاقم  نظرة إعجاب وشجاعة ما زالت تتذكرها جيداً، ما أسهم  في إذابة أي خوف في داخلها، وإنهاء حالة التوتر التي اعترتها.

الطريف أن هذه الرحلة منحتها فرصة للتعرف إلى كيفية عمل البواخر، وطبيعة عمل كل فرد من طاقم الباخرة، فعبر إقامتها في غرفة القيادة والنزول إلى غرفة المراقبة باتت ملمة بالتفاصيل كافة، وحلمت بأن تقدم عملاً يتضمن تفاصيل هذه الرحلة والمخاطر التي عاشتها خلالها، خصوصاً عندما فوجئت في مساء أول أيامها على الباخرة بالضابط المسؤول، وهو يطفئ كل الأجهزة التي كانت تعمل دفعة واحدة، ما أثار اندهاشها واستغرابها في ظل حالة القلق والتوتر التي كانت تعيشها، وخشيت السؤال عن السبب، فتُشعر طاقم الباخرة بأنها قلقة، أو تزعجهم من كثرة أسئلتها، إلا أن القبطان لمح نظرات القلق الممزوجة بالفضول في عينيها.

-  شكلك مستغربة يا مدام مديحة وعاوزة تسألي إحنا عملنا كده ليه؟

مديحة في محاولة لأن تبدو متماسكة: أكيد طبعاً لو سؤالي مش حيضايق حضرتك ولا يزعجك.

القبطان: لا أبدا أنا أصلي حسيت أنك قلقانة شوية ومحتاجة تفهمي، بصي يا فندم إحنا عملنا كده علشان في باخرة قريبة مننا بتتظاهر أنها في حاجة إلى مساعدة رغم أنها سفينة تابعة لإحدى الدول المعادية.

مديحة بانزعاج: يا خبر طيب وحنعمل إيه حضرتك؟

القبطان بهدوء: أبدا حنغير مسار الرحلة حفاظاً على سلامة الجميع، ودي الخطط البديلة اللي بنلجأ لها في الحالات دي.

ثم تابع ضاحكا: مش قلت لحضرتك من الأول أن الرحلة خطيرة وممكن نتعرض لأي مخاطر.

ابتسمت مديحة لتخفي قلقها: بإذن الله حنوصل بالسلامة.

 تتابع مديحة: {بالفعل كان هذا التغيير في مسار الرحلة بمثابة إنقاذ لنا رغم أنه تسبب في تأخيرنا عن الوصول إلى ميناء بيروت 4 ساعات تقريباً عن الموعد المحدد سلفاً}.

استغرقت رحلة السفر إلى بيروت يومين ونصف اليوم تقريباً، وكانت رحلة شاقة وخطيرة، لكن مديحة نسيت كل هذا التعب فور وصولها إلى ميناء بيروت، وتوجهها إلى البنك لاستكمال تحويل الأموال المطلوبة إلى البنوك البريطانية، وبالفعل نجحت مديحة في إنقاذ فيلم {أرض الأحلام} وخروجه إلى النور، وتجنبت مشاكل كان يمكن أن تقع فيها.

وبقي من هذه الرحلة تجربة المغامرة التي عاشتها مديحة كامرأة وحيدة على متن باخرة وسط أجواء حرب، واحتمال التعرض للاختطاف، وهو ما كانت تتمنى أن تترجمه عبر أحد أعمالها الفنية، كذلك اختبرت عشقها للفن بشكل مختلف، وأنها على أتم الاستعداد لأن تدفع حياتها ثمناً للوفاء بالالتزامات والعهود التي قطعتها على نفسها.

البقية في الحلقة المقبلة