تبدو المشاهد من العاصمة الأوكرانية مذهلة: إسقاط تمثال لينين، مئات آلاف المحتجين يلوّحون بالأعلام، غارات تنفذها الشرطة على وسائل إعلامية ومراكز أحزاب المعارضة، إلا أن كل هذه التطورات تبقى مجرد عرض ثانوي مقارنة بالصورة الكبرى: انهيار جهود الاتحاد الأوروبي لضم جيران الاتحاد السوفياتي السابق والتصدي لمحاولة جريئة من نظام فلاديمير بوتين القائم على المخابرات السوفياتية السابقة لإعادة إحياء الإمبراطورية الروسية.

Ad

اعتُبر توسّع الاتحاد الأوروبي شرقاً أحد أهم إنجازاته، فالدول التي انضمت إليه عام 2004 (ما يُدعى دول الاتحاد الأوروبي الثماني: إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا، بولندا، الجمهورية التشيكية، سلوفاكيا، هنغاريا، سلوفينيا) تمثل اليوم أهم قصص النجاح في القارة. حتى الأصوات الأكثر انتقاداً في "أوروبا القديمة" تقرّ بأن الاتحاد الأوروبي بات أقوى، لا أضعف، بسبب أعضائه الجدد.

إلا أن هذا الانتصار استند إلى بعض الظروف الخاصة، فقد قدّم الاتحاد الأوروبي لتلك الدول عضوية حقيقية، كذلك رغبت تلك الدول في الإصلاح، والتحديث، والاندماج مع الغرب، وأدركت حكوماتها وشعوبها على حد سواء أن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي يشكّل السبيل الوحيد إلى تحقيق تلك الأهداف، لذلك بدوا مستعدين لإجراء إصلاحات قوية والقبول بها، ولم يستطع أحد وقفهم.

لكن هذه المزايا غير متوافرة في "الشراكة الشرقية"، خطة الاتحاد الأوروبي غير المدروسة لإقامة روابط أقوى مع أرمينيا، وأذربيجان، وروسيا البيضاء، وجورجيا، ومولدوفا، وأوكرانيا، فلا تبدو هذه الدول الست متجانسة. تريد أذربيجان الغنية بالنفط روابط استراتيجية مع الغرب، إلا أنها تملك عشرات السجناء السياسيين ووسائل إعلام خاضعة لضوابط كثيرة. في المقابل، تتمتع روسيا البيضاء بسجل أقل سوءاً نسبيّاً في مجال حقوق الإنسان، إلا أنها تنحو منحى الكرملين في سياستها الخارجية، ومع أن أرمينيا لا تحب روسيا كثيرا، تعتمد على الكرملين للصمود في وجه أذربيجان. تميل جورجيا ومولدوفا إلى الغرب، غير أنهما ضعيفتان، صغيرتان، وغير محصنتين، أما أوكرانيا، فهي أكبر من كل هذه الدول مجتمعة.

تجمع بين هذه الدول الست ثلاثة قواسم مشتركة، لكنها لا تخدم كلها المصالح الأوروبية، وتتراوح قدرة هذه الدول على إجراء إصلاحات عميقة بين الضعيف والمعدوم، كذلك لا يريد الاتحاد الأوروبي منحها عضوية كاملة، في حين يسعى الكرملين إلى إبقائها في مداره.

أدى كل ذلك إلى كارثة كبيرة، فلم تحقق الشراكة الشرقية أي تقدّم في روسيا البيضاء. واشترطت أذربيجان تسهيل الحصول على تأشيرات دخول إلى الاتحاد الأوروبي، إلا أن حكومتها لم تعرب عن أي رغبة في إجراء إصلاحات سياسية، كذلك حاولت أرمينيا التجاوب مع هذه الشراكة، غير أن روسيا أرغمتها على العودة إلى خطها السابق. فرفضت في شهر سبتمبر اتفاق الاتحاد الأوروبي، وفي الشهر الماضي، أعلن الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش فجأة عشية قمة الاتحاد الأوروبي في ليتوانيا أنه لن يوقّع هذا الاتفاق أيضاً، فقد قدّمت روسيا له ولبلده عرضاً لا يُقاوَم.

لم تتضح بعد كامل تفاصيل هذا العرض، ولكن يبدو أنها تشمل قرضاً طارئاً لدعم اقتصاد أوكرانيا المنهار، قرضاً يرتبط بشروط صارمة، منها فرض أسعار غاز مرتفعة على أي صفقة مع دائن غربي، مثل صندوق النقد الدولي، كذلك يتضمن هذا العرض منح أوكرانيا القليل من الغاز البخس الثمن الذي ستُزوّدها به شركة-وسيط غامضة، إلا أنها تتمتع بعلاقات قوية. كذلك ستضع روسيا مواردها الإعلامية الضخمة، وخصوصاً قنواتها التلفزيونية التي تتمتع بنسبة مشاهدة عالية في أوكرانيا، في خدمة نظام يانوكوفيتش، منددةً بالمتظاهرين.

في المقابل، سيقرّب فلاديمير بوتين أوكرانيا أكثر إلى الاتحاد الجمركي الأوراسي المخطط له، علماً أن هذا مشروع الرئيس الروسي الأهم الذي يهدف من خلاله إلى توسيع نفوذ الكرملين في مناطق الإمبراطورية السابقة.

شكّلت هذه إغراءات لحض كييف على رفض إقامة روابط أقوى مع الاتحاد الأوروبي، لكن العرض الروسي لم يخلُ من وسائل الترهيب أيضاً، تتأثر أوكرانيا بقوة بالعقوبات الاقتصادية الروسية، خصوصاً أن موسكو سبق أن فرضت عليها عدداً من العقوبات. كذلك يشكّل أمن يانوكوفيتش الشخصي عاملاً مهمّاً: يخشى من أن يُقتل بالسم، لذلك يصطحب معه في أسفاره مجموعة كبيرة من متذوقي الطعام والحراس الشخصيين تضاهي حاشية البلاط البيزنطي. في عام 2004، تعرض زعيم المعارضة فيكتور يوشينكو للتسمم بواسطة الديوكسين بعد تحديه نفوذ الكرملين في أوكرانيا. صحيح أنه لم يمت وأصبح رئيساً، إلا أنه تعرض لتشوهات دائمة.

لا يستطيع الاتحاد الأوروبي مضاهاة عرض مماثل، فلم يعتد الأوروبيون توجيه التهديدات أو تقديم الرشا، بل هم يساعدون الدول على تحسين قوانينها بشأن حقوق الملكية الفكرية وإجراءات سلامة الطعام. كذلك يُطالِب الاتحاد الأوروبي بانتخابات ملائمة، محاكم مستقلة ونزيهة، وتنظيمات مناسبة لوسائل الإعلام، علماً أن هذه كلها تتعارض مع مصلحة يانوكوفيتش الذي يزدهر بسبب الانتخابات المزورة وآليات الدعاية الكاذبة والعدالة المغشوشة.

تشمل الفوائد الأخرى التي يقدمها الاتحاد الأوروبي التجارة الحرة، التي تولّد صدمة تنافسية حادة في البداية لتليها المكاسب، وسهولة أكبر في الحصول على التأشيرات، علمًا أن هذه لا تهم يانوكوفيتش الذي يستطيع السفر حيثما يشاء. لذلك بعد أن زان القائد الأوكراني عرضَي كلا الطرفين، اختار ما يمنحه القوة والمال: عرض الكرملين.

أوقع هذا القرار مسؤولي الاتحاد الأوروبي في الحيرة، فهم لا يفهمون طريقة تفكير أناس مثل يانوكوفيتش ومقاربتهم الغريبة إلى السياسة؛ كذلك لا يفهمون روسيا، ففي نظرة الاتحاد الأوروبي إلى العالم في حقبة ما بعد الحداثة، قد تكون فكرة مواجهة أمر بشعة وقديمة الطراز، مثل صراع جيو-سياسي، غير منطقية أو مقبولة.

لكن المسؤولين الأوروبيين لم يتنبهوا للنقطة الأساس في السياسة الخارجية الروسية: كي تشعر موسكو بالأمان، تحتاج إلى جوار جيو-سياسي يتألف من دول ضعيفة اقتصاديّاً وطيّعة سياسيّاً، إلا أن الشراكة الشرقية قد تجعل الدول المحيطة بروسيا قوية اقتصاديّاً وثابتة سياسيّاً؛ لذلك كان من الضروري تقويض هذه الشراكة.

ولكن بينما كانت قمة فيلنيوس تنهار الشهر الماضي، كان بعض مسؤولي الاتحاد الأوروبي لا يزالون يصرون على أن التواصل بشكل أفضل مع روسيا يشكّل السبيل الأمثل إلى حل هذه المشكلة. حتى إن بعضهم لجأ إلى الإنكار، فقد هلل هيرمان فان رومبوي، رئيس المجلس الأوروبي، لنتائج القمة، التي شملت صفقة مؤقتة مع مولدوفا وجورجيا، معتبراً إياها "انتصاراً تاريخيّاً".

لكن إخفاق الاتحاد الأوروبي في التعاطي بالشكل الصحيح مع أوكرانيا بدا أشبه بفضيحة، فلا نبالغ إن قلنا إن هذا البلد يحدد المستقبل الطويل الأمد لمنطقة الاتحاد السوفياتي السابق بأكملها؛ لذلك إذا تبنت أوكرانيا توجهاً أوروبيّاً-أطلسيّاً، ينتهي أمر نظام بوتين والدول التابعة له، خصوصاً أن النجاح السياسي، والاقتصادي، والثقافي لدولة أرثوذكسية صناعية كبيرة من دول الاتحاد السوفياتي السابق سيشكّل الإشارة الأوضح التي تؤكد للروس أن حكامهم اللصوص، والكاذبين، والمتنمرين لا يدفعون بلدهم نحو العظمة، بل يؤخرون تقدمه.

ولكن إذا وقعت أوكرانيا في قبضة روسيا، يصبح المستقبل حالكاً وخطيراً، فلن تكون رأسمالية المحاباة المستبدة قد انتصرت في الاتحاد السوفياتي السابق فحسب، بل سيغدو أمن أوروبا بحد ذاته مهدداً أيضاً، يبذل حلف شمال الأطلسي اليوم قصارى جهده ليحمي دول البلطيق وبولندا من القوات العسكرية المتكاملة والمتنامية لروسيا وروسيا البيضاء، وإذا انضمت أوكرانيا إلى هذا التحالف، فستتحوّل تلك المشكلة إلى كابوس.

لم يفوّت القادة الغربيون أي فرصة ليُظهروا للكرملين ألا داعي أن يأخذهم على محمل الجد، فكاد صوت الاتحاد الأوروبي ألا يُسمع عندما فرض الكرملين عقوبات تجارية على أوكرانيا، ومولدوفا، وجورجيا، وليتوانيا، كذلك لم يبذل جهداً يُذكر ليؤكد للمترددين في أوكرانيا أن أوروبا يُعتمد عليها في الأزمات. نشكر إدارة أوباما على الدعم الدبلوماسي المتأخر الذي قدّمته للاتحاد الأوروبي في منطقته الشرقية، لكن هذا الدعم يسلط الضوء أيضاً على الإمهال المخزي الذي عانته تلك المنطقة طوال سنوات.

لعل الطريقة الفضلى التي تستطيع أوروبا والولايات المتحدة من خلالها مساعدة أوكرانيا (وجورجيا ومولدوفا) تبني موقف أكثر حزما من روسيا. ربما لا يرغب الاتحاد الأوروبي في خوض لعبة جيو-سياسية، لكن هذه اللعبة الجيو-سياسية قد بدأت في أوروبا، وباتت مصالح الاتحاد الأوروبي وأعضائه مهددة.

يجب أن يجمّد الاتحاد الأوروبي طلب روسيا السماح لحاملي جوازات سفر "رسمية" بدخول أراضيه من دون تأشيرة؛ كذلك على الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي تجميد طلب روسيا الانضمام إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، منظمة للحكم الرشيد مقرها في باريس، فضلاً عن ذلك، ينبغي للاتحاد الأوروبي أن يعزز تدقيقه في سلوك شركة غازبروم في سوق الغاز الأوروبية، والمضي قدماً بزخم في "شكوى" عدم الاحتكار الوشيكة ضد هذه الشركة الروسية العملاقة التي تملكها الدولة.

آن الأوان لنؤكد لبوتين أن رحلة الصيد التي يقوم بها في الدول المجاورة لروسيا قد انتهت، ولكن لا تتأملوا خيراً.

* إدوارد لوس | Edward Luce