في البريد اللندني عادةً ما نستلم رسائل ومنشورات إعلانية كل يوم. أحياناً تبدو الرسالة موجهة لك شخصياً، وواعدة بجوائز تستثير استجابات قوى غير منطقية في داخلنا. بعضنا قد يتمتع بجهل يعزز من القوى غير المنطقية هذه، فيصدق وعد الجائزة، وبأن سهم النصيب للشركة الفلانية قد وقف عند اسمه، فأفْرده بجائزة الموسم، التي قد تتجاوز المليون أو المليونين. حدث مرة مع رجل من أقاربي، وانزعج من نصحي بأن الأمر لا يعدو استثارة إعلانية، فقطع العلاقة معي بتهمة الغيرة. واضح أن الحاجة وراء هذه الاستجابة التي لا تخضع لمنطق كامنةٌ في كل واحد فينا، وهي ذاتها الحاجة التي لا تفْتر إلى التعلق بالآمال. فالأمل لدى الإنسان هو الدم الذي يحرّك خطواته، ولكنه في الوقت ذاته العثرات التي تربك هذه الخطوات. ورغم النزْر اليسير من الدم الذي يتدفق فيه، إلا أنه لا يذوي أو يموت.

Ad

قبل يومين شاهدت في إحدى دور العرض السينمائية اللندنية فيلماً أميركياً طريفاً بعنوان «نيبراسكا»، ينتفع من حكاية الوعد الزائف هذا. ولكنه يذهب أبعد من دائرة الخديعة. فالرجل المُسن «وودي»، الذي يتميّز بحدة الطبع، والذي دبَّ فيه الضعف والخرَف بفعل الشيخوخة أو الطبيعة، يستلمُ رسالة تؤمّلُه بمليون دولار. ولأنه لا يأْمن البريد لإرسال استجابته، يقرر الذهاب بنفسه إلى مدينة «نيبراسكا» البعيدة، حيث مركز الشركة لتسلم ثروته الجديدة. ولأنه كحولي لا يصلح لقيادة سيارة، يتبرّع ابنُه ديفيد بأن يصحبه في سيارته، رغبة في التعرّف أكثر على شخص أبيه الذي لم يكن يوماً مبالياً. فهو يعرف حقيقة الوهم الذي ركِب رأس أبيه. والفيلم الذي يمتد قرابة ساعتين يتواصل عبر هذا السفر في الطريق إلى «نيبراسكا».

المخرج الأميركي ألكسنْدر بَيْني (مواليد 1961) ميال إلى الكوميديا في أفلامه، إلا أن دعابته في هذا الفيلم الجديد رمادية، إن لم تكن سوداء. ولقد اختار أن يُخرج فيلمه بالأسود والأبيض ليثبّت من مقاصده الجدية. فرحلة الطريق رحلة اكتشاف، لشخصية الأب بالنسبة للابن، ورحلة اكتشاف لجانب داكن من الحياة الأميركية بالنسبة لي أنا المشاهد غير الأميركي. السيارة تتوقف عند عائلة من الأقارب، وعند خمارة مدينة كان البطل ينتسب إليها، فتعرفوا عليه جميعاً، خاصةً بعد شيوع خبر الجائزة. وصارت الأطماع تدب في بعضهم، فاخترعوا ديوناً قديمة مطمورة سألوا وودي أن يعيدها الآن وقد أصبح ثرياً. ديفيد الابن يكتشف في كل خطوة مزيداً من جوانب شخصية الأب، الذي لم يكن يلتفت للوهم الذي تلبّسه، بل لتوكيد ذاته وحضوره الحي. وأنا أكتشف مزيداً من جوانب الحياة الأميركية التي تستدعي من البطل هذا التصرف الذي ينم عن فراغ وحرمان وإذلال وضياع للفرد، الذي احتفى بفرديته، والتي تحولت بدورها إلى سجن وعزلة.

مشهد العائلة لا ينم عن إشراقة صغيرة للحياة. الجميع بالِغو السمنة، لا يتوقفون عن احتساء البيرة، فاغرو الفم أمام التلفزيون لمشاهدة كرة القدم، وإذا تحدثوا فعن السيارات. يبتلعهم صمت حيث لا تواصل. الحوار حين يحدث مبتور، يُذكّر بمسرحيات صمويل بيكيت، ولكن دون بُعْدها الميتافيزيقي. فالفيلم يذهب إلى مقاصد دنيوية، وواقعية. حين زرت ديترويت، وهي مدينة أميركية نموذجية، رأيتها تتسم بفراغات عارية بين البيوت، وأخرى واسعة سعة برية بين الأحياء. الأميركي فيها يفضّل أن يظل في منْأى عن الآخر. ولقد كشف هذا لي شيئاً من أسرار الصمت في لوحة «هوبر»، الرسام الأميركي الشهير.

الحقول والسهول والتلال البعيدة مُستلبة الحياة في الفيلم، والأفق غائم ومعتم. والمدن خالية من الحركة وفارغة. «فالعدم في متناول اليد» بتعبير أحد النقاد. حتى ليبدو الفيلم مسعى شاق للرجل المُسن «وودي» من أجل إضفاء معنى وإثارة وقيمة لحياته، وللحياة من حوله. ولقد كان الممثل بروس ديرْن أكثر من رائع في أداء الدور، حتى أنه حصل على جائزة أحسن ممثل في مهرجان كان 2013.