فجر يوم جديد: {ابنة}
سأحدثكم اليوم عن تجربة مشاهدة أول فيلم باكستاني في حياتي!الفيلم يحمل عنوان «ابنة» (93 دقيقة)، وهو من إخراج عافية ناثانيال، التي كتبت السيناريو وشاركت في الإنتاج، واختارت أن ترصد من خلاله وضعية المرأة في باكستان (الإنتاج مشترك مع النرويج والولايات المتحدة)، وتكشف الحال المتدهورة التي وصلت إليها، وأدت إلى عدم الاكتفاء بتجاهل المرأة، واحتقارها، وتهميش دورها، فحسب، بل تفاقمت إلى درجة انتهاك براءة الأطفال أيضاً، وتدميرمستقبلهم.
كنت حريصاً على انتقاء فيلم «ابنة» من بين عناوين الأفلام الكثيرة التي كانت تٌعرض في التوقيت نفسه، لإحساسي أنني مُقبل على تجربة جديدة لا تخلو من إثارة، وطوال متابعتي الفيلم لم يفارقني الشعور بأنني حيال فيلم مصري، ولا أتجاوز عندما أقول عربياً؛ فاضطهاد المرأة ليس له وطن في ما يبدو؛ خصوصاً في الدول التي تعاني الفقر والعوز والجهل. والأم الباكستانية (أدت الدور ببراعة سامية ممتاز) ليست سوى أنموذج لآلاف الأمهات العربيات اللاتي عشن مرارة الإقصاء والاضطهاد، وأبين أن تتكرر المأساة مع بناتهن فاخترن لهن مصيراً آخر! للوهلة الأولى يبدو أن المخرجة/ كاتبة السيناريو آثرت أن تنأى بنفسها عن المشاكل، واختارت أن تتحدَّث عما جرى للأم، التي حرمها زوجها، لسنوات طويلة، من أن ترى أمها العجوز، والخطر الذي يتهدد طفلتها، ويكاد يوحي بأن مأساتها ستتكرر بشكل أكثر قسوة، من دون أن تربط الأزمة بأسباب دينية، بل أرجعتها إلى أسباب اجتماعية تتعلق بظاهرة الثأر بين القبائل في باكستان، وسعي الأب إلى وضع حد للتناحر والتقاتل الدموي الذي أسقط عشرات الضحايا، بأن يوافق مُرغماً على شرط شيخ القبيلة المعادية بأن يزوجه طفلته، التي لم تتجاوز العاشرة من عمرها. لكن المخرجة/ كاتبة السيناريو سرعان ما تعود إلى تأصيل الظاهرة من وجهة أخرى، عندما تُشير بطرف خفي إلى «المجاهدين»، وتُصور رجال زعيم القبيلة المعادية بوصفهم غلاظ القلوب، عدوانيين، يحملون السلاح باستمرار، ومتعطشين لسفك الدماء.أعجبني عنوان «ابنة»، الذي اختير للفيلم الناطق بالأردية والباشتو مع ترجمة إلى الإنكليزية، وعُرض في برنامج «سينما العالم» بالدورة الحادية عشرة لمهرجان دبي السينمائي الدولي، والسر وراء إعجابي أن العنوان أوحى لكل من يشاهد الفيلم بأنها ابنته التي قد تتعرض لنفس المصير، وأن المأساة التي جرت وقائعها في تلك القرية النائية على سفوح جبال باكستان، يمكن أن تتكرر، بين ليلة وضحاها، في أية قرية أو مدينة عربية، وتتحول، بمقتضاها، الأم التي ارتضت أن تكون مغلوبة على أمرها، إلى هاربة ومذعورة، خشية الموت الذي ينتظرها في حال اكتشاف مكان وجودها، وهو المشهد الكارثي الذي وجدنا أنفسنا في مواجهته، على الشاشة، بعد أن عزمت الأم أمرها، واتخذت قرارها، وهربت بابنتها، الطفلة، فجر ليلة زفافها، في رحلة إلى المجهول؛ حيث القتل الذي ينتظرها على أيدي أتباع زعيم القبيلة، ورسل والدها الذي شعر بأنها طعنته في شرفه، ومشاعر الحنين إلى الوطن الذي ضاع، والاستقرار الذي تبدد!أجمل ما في الفيلم أن المخرجة/ كاتبة السيناريو أضفت على شخصية الأم مهابة، وقوة، وثقة، واعتزاز بالنفس، ولم تسقط مثلاً في أحضان سائق الشاحنة «سهيل مالك» (أدى الدور مهيب ميرزا) الذي وضعته الأقدار في طريقها، وهو أيضاً «مجاهد سابق»، ولم تخدش صورتها أمام نفسها، وابنتها، والمجتمع الذي تنتمي إليه، والجمهور الذي تابع مأساتها، ومن ثم استحوذت على التعاطف، وثمَن الجميع تضحيتها، وأثنى على نبل قضيتها، وهي نقطة ايجابية تُحسب للمخرجة، وللفيلم، الذي لا يمكن أن يُقال إنه أساء للإسلام أو خدش صورة المرأة المسلمة في باكستان؛ فالمتأمل للصورة التي قدمها السيناريو للمرأة، التي لجأت إلى الاختباء، وطفلتها، في سيارة الرجل الغريب، سيُدرك أن العلاقة بدأت كوميدية وتحولت إلى رومانسية، وكان طبيعياً أن تدخل في دائرة الإثارة الحركية «الأكشن». لكن المخرجة لم تنجر، من باب بيع تخلف الشرق للغرب، أو الاتجار بجسد المرأة المسلمة لإرضاء الشريك الأجنبي في التمويل، إلى الوقوع في فخ الترخص والابتذال، ودغدغة الحواس والغرائز، عبر توريط الأم، الشابة، في علاقة مُحرمة مع السائق الشاب، وإنما قدمت علاقتهما بشكل تغلب عليه الشفافية والرومانسية والتعاطف مع المرأة، وابنتها، والسائق أيضاً بوصفهم ضحايا مجتمع قادهم إلى مصير مفجع.لم تشأ المخرجة النابهة أن تصدم الجمهور بنهاية قاتمة لكنها أبقت الباب مفتوحاً، وأشاعت الكثير من مشاعر التفاؤل بأن ثمة أملاً في غد جديد، وهو التفاؤل الذي عبرت عنه الكاميرا بصورة لم تغب عنها الطبيعة الساحرة، رغم قسوتها وخشونتها، وجاءت لغة الفيلم لتضفي على القضية شاعرية ودفئاً وإنسانية، ولكل هذه الأسباب اختارت دولة باكستان فيلم «ابنة» ليمثلها في مسابقة أوسكار أفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية في العام 2014، والتي تُعلن نتائجه مطلع العام 2015.