"هلاوس" رواية للكاتبة المصرية نهى محمود، فازت بجائزة دبي 2011 بالمركز الأول، وهي الثالثة، وقد سبقتها رواية" الحكي فوق مكعبات الرخام" ورواية "راكوشا"، كما أن لها سيرة باسم "نامت عليك حيطة"، وكتابا باسم "كراكيب".

Ad

 ما شاء الله، إنتاجها كثير مقارنة بقصر الفترة الزمنية التي كتبت بها هذه الأعمال، وأيضا لصغر عمرها، فكثرة توالي الأعمال وسرعة إنتاجها مبررها هو قصر الروايات المكتوبة.

"هلاوس"... رواية شبابية بمعنى الكلمة، ملائمة وعاكسة لعصرها، فمن طريقة التعبير ومن انتقاء الجمل والعبارات المشحونة بكل تفاصيل العصر الذي تعيشه الكاتبة المحمل بأحلامه والناقل لكافة ملامحه التي جسّدتها نهى في "هلاوس" ذاكرة مزجت الماضي من زمن الكاتبة بحاضرها، تفاصيل حياة امرأة شابة بكل ما تعانيه من إحباطات نفسية، فمن ذكريات بيتها الكبير الذي عاشت فيه العائلة كلها الممثلة بسيرة الجدات والخالات والأم والأب والإخوة وأصداء غيابهم، غزلت نهى نسيج ذكريات الحيوات العابرة فيه ولكل من كان فيه، وكما كتبت: "يختلط عليك الأمر وأنت تصعد سلّم الدور الثاني من البيت، فلا تعرف هل كانت تلك السيدة التي تفرش الملاءات البيضاء هي جدتي أم خالتي أم أمي، وحين تدقق النظر ستتساءل بحيرة: هل كان هناك أحد يمارس طقس نشر الغسيل فوق مناشر صارت بلا حبال، وتوقفنا عن استخدامها منذ أكثر من عشرين عاماً؟".

"في بيت العائلة لا أحد يغادر- يلملم شبح جدتي كل يوم بياضات المفارش من فوق الصالونات المذهبة القديمة ويطرق باب جناحنا بعد الفجر لنستيقظ لنقف خلف جدي لنصلي الفجر".

اختلطت سيرة حياة الكاتبة بطريقة كتابتها في تناوب جميل يغزل ما بين الحدث الحقيقي وتخيله، مثل حضور البطل يحيى وغيابه الذي يضيع بين التجسد والخيال.

كتابة نهى محمود كتابة روح طازجة تنظر إلى الأشياء من منظور تعبيري جديد محمل بالعمق وبالبساطة والصدق والصراحة في الوقت ذاته، كتابة تمارسها الحواس الخمس مجتمعة، ما منحها حدة وتوهج الحضور وبهجة المشاركة مع القارئ، أو كما تقول: "أحياناً أنشغل عن إحساس ما.. لأعيشه في لحظة ما، لأبحث له عن مفردات تسعه، متى كان ذلك حاضرا بقوة وجنون؟!"

فقرات قصيرة أوجزت حياة بأسرها من دون ترهّل التفاصيل الكثيرة المملة، هي لقطات عميقة مكثفة في نبض عيشها، ما بين سيرة الماضي الممزوج بسيرة الحاضر، وكلها ليست إلا لقطات لمشاهد سريعة قصيرة تستحضر ذاكرة الغياب، وكل ما هو مطموس فيها من ذكريات الطفولة والصبا والشباب محزومة بعنف روائحه وتوابل ذكرياته، وبليل حكمة الجدات.

كتابة خارجة عن سطوة الحبكة بالمعنى التقليدي لكتابة الرواية، فالقص الحداثي لا يحتاج إليها، وإن كانت كتابة نهى لا تخلو من النفَس الدرامي الخفيف الذي لا يتجه إلى التصعيد في الحدث، لكنه يشد القارئ من منطقة نفوذ أخرى وهي حساسية الصدق وعمق الإحساس والمكاشفة بالهمس القريب الداخلي، البوح الذي يشرك القارئ في حميمية أسراره ووجع أحاسيسه، كما جاء في هذه التعبيرات: "ثمة أحد في هذا العالم تستحق أن تتماسك لأجله، رهيبة هي الحياة دون صخور نتلمس بها طريقنا في العتمة".

بصراحة، أحببت كتابة نهى محمود فهي خارجة عن شكل الكتابات الشبابية النمطية، أو تلك الراكضة خلف الغرائبية ومخلوقات السحر و"كلاكيع" الأحداث غير المنطقية الخارقة للمعقول، كما أن كتابتها تملك من العمق الذي يفتقده شباب جيلها في الكتابة التي هي بمفهومهم نقل قص أو محاكاة لسرقة واقع ما، يكاد يخلو من عمق الإحساس به.

نهى تكتب من داخل أحاسيسها وليس من خارجها، وحتى الخارج يأتي من داخلها، لذا مهما كان الحدث بسيطا فهي قادرة على منحه رؤية شفافة عميقة بتحليل للحدث وتأويل تفسيراته، وهو ما ينعكس عليه قولها: "عندما تورطت مع الحياة واختبرني العالم قدر ما يحلو له كرهت تربيتي وتعقيمي، وتأذيت من الدنيا أكثر من كل أقراني الذين اختبروا العالم مبكرا كثيرا عني، مقاومتي للتورط في الحياة لم تعفني من الانغماس فيها، سيري على حافة الأشياء لم يجنبني الحصول على وفرة من الأعداء، حفاظي على المسافة الآمنة بيني وبين العالم لم يحميني من السقوط في الأخطاء، مقاومتي للتورط في الحياة لم تعفيني من الانغماس فيها".