مجلة "الثقافة العالمية" الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت، مجلة معنية بالانفتاح على الثقافات الإنسانية وإطلاع القارئ العربي على مستجداتها وتحولاتها، نظمت مؤتمراً حول "تحولات الثقافة العالمية" في ظل العولمة، حضره نخبة من المفكرين والباحثين، وكانت لي مساهمة بورقة ألخصها في هذه المقالة.  الانفتاح على ثقافات العالم وتجاربه، وفي كل مظاهره: سياسياً واجتماعياً وإعلامياً وتعليمياً واقتصادياً، نعمة عظمى من نعم الله تعالى على أهل الخليج، كما أنه ضرورة ملحة لعبور الفجوة الحضارية إلى عالم المزدهرين، ومن لا ينفتح يحكم على نفسه بالذبول، لذلك يعجب المرء من الذين نصبوا أنفسهم حراساً وحماة للهوية، يخوفونك من العولمة الخبيثة كما يسمونها، ويحذرونك من الغزو الثقافي المسموم بحسب رأيهم، ويصفون العولمة السياسية والاقتصادية بأنها استعمار جديد أو "أمركة"، ويعدون العولمة الثقافية عدواناً ثقافياً غربياً.  التحذير قد يفيد، لكن الأكثر فائدة تبصير الناس بمحاسن الحضارة: نظاماً وإنتاجاً واحتراماً لحقوق الإنسان، أما الاقتصار على المساوئ وتضخيمها، وتغييب الإيجابيات وإغفالها، فأمران يورثان خللاً في الفكر، ولا يدفعاننا إلى تغيير واقعنا، بل يشحنان قلوب ناشئتنا بكراهية المتقدمين ويحولانهم إلى قنابل بشرية رخيصة.

Ad

أصل العولمة

إن سكان هذا الكوكب أصبحوا متقاربين متواصلين معنيين بشؤون بعضهم بعضاً، فما يحصل داخلياً يؤثر خارجياً، وبالعكس، فعليهم أن يتعاونوا مجتمعين في معالجة قضايا لا يمكن علاجها منفردين، مثل: التلوث، والتزايد السكاني، وتجارة المخدرات، والإرهاب، وحقوق الإنسان.

الهوية الثقافية

هي الإطار الجامع لكل أشكال النشاط لمجموعة بشرية، تميزها عن غيرها: روحياً ومادياً، وفكرياً وعاطفياً، وعلمياً ومعرفياً، وعادات وتقاليد وفنونا ومعتقدات وتصورات وأنماط علاقات.

الخليج أكبر منطقة عربية معولمة

يحتضن الخليج اليوم أكثر من ٢٠٠ جنسية بعاداتها ومعتقداتها وثقافاتها ولغاتها، في تعايش إنساني بنّاء، وعلى امتداد أجيال، عاش الخليجيون منفتحين على مختلف الشعوب: تجارة وترحالاً ومصاهرة، فالخليج بهذا الانفتاح والتواصل أكبر منطقة عربية معولمة، والأكثر استقطاباً للاستثمارات العالمية، لكن إحساس الخليجيين أنهم أقلية تتضاءل تدريجياً في طوفان بشري يتدفق من دول الفائض البشري والمجاعة، إحساس ضاعط على نفوسهم، أنتج هذا "الطوفان البشري" العولمي خللاً متعاظماً في التركيبة السكانية، واكتظاظاً خانقاً للمعيشة، وأفرز:

١- تزايد شعور المواطن بـالاغتراب.

٢-  التضحية بـالجودة النوعية للحياة.

٣- الفزعة على "الهوية الثقافية" والدين، واللغة، والعادات والتقاليد، وهناك سيناريوهات متشائمة للمستقبل الخليجي، تتنبأ بأن الخليج سيفقد هويته الثقافية، وشخصيته المتميزة، ومع أن المخاوف مشروعة، والتحدي العولمي حقيقي، إلا أني أرى في هذه السيناريوهات مبالغة، وذلك للآتي:

أولاً: ها نحن بعد نصف قرن من الانفتاح لم نفقد شيئاً من المقومات الأساسية للهوية: لا ذابت شخصيتنا، ولا ضعفت ثقافتنا، ولا فرطنا في لغتنا أو ثوابتنا الدينية والوطنية، حتى المربيات اللاتي حذرونا من تأثيرهن على أطفالنا، تعلمن لغتنا وانخرطن في ثقافتنا واعتنقن ديننا.

ثانياً: "الهوية" أشبه بالبصمة الوراثية، لا يمكن محوها أو ذوبانها مهما انفتحنا، الولايات المتحدة وكندا أكبر المستقبلين للمهجرين بتعدديتهم الثقافية والدينية والعرقية، ومع ذلك فإن ولاء المواطن الأول هو للهوية الأميركية والكندية، ترى أين كان ممكنا لمواطن من جذر إثني أقلي، الفوز بالرئاسة، في غير أميركا؟!

ثالثاً: هناك مجتمعات أكثر منا انغماسا في العولمة، كاليابان وكوريا وماليزيا، ولم تفقد هويتها ولا ثقافتها ولا لغتها.

رابعاً: نحن أصحاب حضارة عريقة، انفتحت على الثقافات وتفاعلت معها، وكانت مناراً هادياً للعالم، لذلك علينا ألا نخشى رياح العولمة، بل نتفاعل معها، تفاعل الواثق بنفسه ودينه ولغته وثقافته.

خامساً: "الغزو الثقافي" مقولة زائفة، تصطنع حاجزاً وهمياً بين الثقافات، فالغزو عملية مستحيلة، فماذا يفعل بك من يغزوك ثقافياً؟ يقدم كتاباً أو صحيفة أو تجربة أو نظاماً أو معلومة... إلخ، وأنت حر في أن تقبل أو ترفض.

سادساً: لا ثقافة صافية اليوم، فالثقافات في حالة تفاعل مستمر، والثقافة الأميركية التي تنتشر عالمياً، هي حصيلة ثقافات العالم، تفاعلت وانصهرت، وهي مصدر التفوق الأميركي.

سابعاً: الهوية ليست نسقاً مغلقاً، بل هي حصيلة تراكمات تاريخية متطورة، وهوية الخليج اليوم، غيرها قبل نصف قرن.

ثامناً: إن عقلية راعي الغنم المستغيثة من الذئب العولمي لا تفيدنا في عالم متغير، فالخليج بالعولمة أكبر ازدهاراً وأكثر فاعلية- سياسياً واقتصادياً- وأكثر أمناً واستقراراً.

تحصين البيت الخليجي

الأجدى من صيحات الفزعة على الهوية اتخاذ خطط وطنية وخليجية، تعزز الهوية في مواجهة تحديات العولمة، عبر:

١- ترجمة مفهوم المواطنة على أرض الواقع، بحيث يلمسها المواطن- سنياً أو شيعياً، مسلماً أو غير مسلم- في دولته، في صورة حقوق وواجبات متساوية، وفي فرص متكافئة: في التعليم والإعلام والمناصب والإسكان والتقاضي، وفي الثروة والمغانم والامتيازات.

٢- حياد الدولة السياسي والديني والمذاهب، انطلاقاً من أن الدولة، بمثابة الأب لجميع أبنائه، لا ينحاز إلى أحدهم ضد آخر، بسبب معتقده أو دينه أو مذهبه أو جنسه.

٣- إعلاء حقوق الإنسان، وهي مواثيق وقعتها وصادقت عليها دولنا، فلا ينبغي للدولة أن تتغول على الحقوق والحريات أو تنزل إلى مرتبة مخاصمة مواطن مطالب بحق.

٤- تمكين المرأة وطنياً وخليحباً، بزيادة مساهماتها التنموية وتذليل المعوقات أمامها ومساعدتها على التوفيق في مهمتيها الأسرية والمجتمعية.

٥- كسب الشباب باعتبارهم "قضية أمن وطني وخليجي" وتحصينهم من التطرّف الديني.

٦- تفكيك هيمنة السلطة الدينية على الشأن المدني، وإبعاد الدين عن الصراعات السياسية والحزبية، وإصلاح الخطاب الديني، وتجريم توظيف المساجد، حزبيا وأيديولوجيا، وضبط الفتاوى والخطب المحرضة وتجريمها.

٧- مكافحة الفساد المستشري في بنية المجتمعات الخليجية.

ختاماً: لا خوف على الهوية، فالخليجيون متمسكون بثوابتهم وإسلامهم المعتدل السمح الذي ينبذ التطرّف والتسييس، متمسكون بنظامهم السياسي المتجذر والمكتسب شرعية راسخة.

أخيراً: غادرت الكويت والقوم منشغلون بـ"البديل الاستراتيجي"

 * كاتب قطري