«البصاروة» يتخلون عن «طيبتهم» ويندفعون بغضب نحو فكرة «الاستقلال» عن بغداد
للمرة الأولى منذ 11 عاماً وهو عمر التجربة السياسية الجديدة في العراق، يتمكن أهل البصرة من التأثير على حدث كبير في بغداد.فهناك قانون «ثوريّ» حول اللامركزية الإدارية مجمّد منذ سنتين في المحكمة بطعن من الحكومة السابقة، ولم يحرّكه شيء، إلا حين زار رئيس الحكومة حيدر العبادي البصرة مصطحباً معه ممثلين عن 14 حكومة محلية، لعقد اجتماع تداولي بشأن اللامركزية ونقل صلاحيات كثيرة من بغداد إلى المحافظات.
وبمجرد عودته إلى العاصمة، أعلن العبادي سحب الطعن الحكومي، وموافقته العاجلة على توسيع صلاحيات المحافظات، مع طلب تعديلات بسيطة على القانون، معظمها يخصّ الجوانب العسكرية.وظهر بوضوح أن العبادي، تقدَّم بهذه الخطوة متأثراً بإصرار غير مسبوق وجده في البصرة، على الشروع في تشكيل إقليم بصلاحيات كبيرة وفق الدستور، وهو ما حاول أن يحتويه ويهدئ منه، غير أنه لم ينجح كثيراً كما يبدو.أما أهل البصرة، فلا يرغبون في مجرد مخصصات مالية إضافية، أو صلاحيات إدارية بسيطة، بل يتحدثون بغضب عن أمور من قبيل أنه لا يوجد حتى سفير «بصراوي»، وبالكاد يوجد وزيران من البصرة يمثلان منظمة «بدر» المقربة من «طهران»، والتي لا تمتلك نفوذاً واسعاً في المدينة، بينما الأحزاب النّافذة مثل الدعوة والمجلس الأعلى والتيار الصدري لم ترشح شخصيات «بصراوية» للحكومة رغم وجود مرشحين بارزين من المدينة لمناصب عليا مثل ضياء الأسدي رئيس كتلة الصدريين في البرلمان والمعروف باعتداله ومهاراته السياسية وتعليمه الممتاز، عدا عن كونه من أبرز العناصر الشبابية في التحالف الشيعي النيابي. وأشهر تفسير حصل عليه البصريون بشأن تهميشهم سياسياً، مفاده بأنهم «قليلو الكفاءة»، وهي زلّة لسان رهيبة جاءت قبل عام على لسان رجل دين حليف لرئيس الحكومة السابق نوري المالكي، وأثارت غضباً واسعاً، خصوصاً أن معظم ذوي المناصب العليا جاؤوا من مدن صغيرة وفقيرة، فحتى المحافظات ذات الطابع الريفي مثل العمارة والناصرية، حصلت على وزراء وسفراء أكثر، بينما جرى إهمال البصرة التي تحتضن واحدة من أعرق جامعات البلاد، وأبرز المتخصصين في الملاحة البحرية، وصناعة النفط وأيضاً في المساهمات الأدبية والثقافية في تاريخ العراق الحديث.وبعد أن غادر العبادي عائداً إلى بغداد، واتخذ قراراً بتفعيل قانون يوسع صلاحيات المحافظات، أمل العراقيون أن يؤدي ذلك إلى تأجيل أهل البصرة حلم إنشاء إقليم فدرالي، تعويلاً ربما على ما عُرف عن البصريين من «طيبة تاريخية» جعلت بغداد تستسهل دوماً تأجيل أحلامهم، والانشغال بترضية مدن عرفت بشراستها واستعدادها الدائم للتمرد المسلح.لكن بعض المعلقين، ذكر أن أهل البصرة يريدون تجربة شيء جديد، والتخلي عن «الطيبة» والمرونة المعروفين عن هذا الميناء الوادع، فقد خرجت تظاهرتان عصر الثلاثاء الماضي، بعد يوم من زيارة العبادي المدينة، وليلة رأس السنة، وزعت خلالهما الأعلام والبيارق الزرقاء والخضراء الخاصة بحلم الإقليم البصري، مع شعارات قوية تتمسك بتأسيسه، رغم كل تنازلات حكومة العبادي الإصلاحية.ومما يشجع البصريين على خوض الاستفتاء الشعبي بهذا الشأن، لحظة انكسار تعرضت لها هيبة الكيان التاريخي العراقي، وانشغال الأكراد والسنّة بالحديث عن ضرورات أن يمتلكوا خطط تنمية مستقلة عن بغداد التي فشلت حتى الآن في التقاط أنفاسها، ويشعر جمهور واسع في مركز الثروة النفطية في البصرة، بأن مدينتهم تستحق هي الأخرى أن تجرب «ثورة إدارية» وهي التي تنظر بعين الحسد إلى موانئ الخليج المجاورة المزدهرة بينما دفع ميناؤها ضرائب باهظة لسياسات المركز، وتخلّف عن محيطه الإقليمي خلال العقود الأربعة الأخيرة.ورغم أن الخطوة تنطوي على مخاطرات ومغامرات، فإن المتحمسين لها يقولون، إن اسقاط صدام حسين والبدء بتحول ديمقراطي واعتماد دستور فدرالي، كانت في حد ذاتها المخاطرة الكبرى، ولم تعد هناك فرصة للتراجع عن التنمية السياسية، والخراب القائم اليوم يبدو فرصة جديدة لتجربة نمط آخر من السياسة.